أول صورة نذكرها من صور المخاصمة: مخاصمة العابدين للمعبودين، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء:91 - 99]، فيخاطبون آلهتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا، معترفين بضلالهم إذ كانوا يعبدونها، ويسوون بينها وبين الخالق سبحانه وتعالى، وقد خاب وخسر كل من يرفع المخلوق إلى رتبة الخالق، وكل من عبد من دون الله سبحانه وتعالى آلهة فقد سوى بين الخالق والمخلوق، وكل من اتخذ إلهاً من الآلهة الباطلة دون الله فقد عدل بين الله وبين خلقه في هذه العبادة، وهذا هو عين الظلم العظيم، كما حكى الله عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: {وإذ قال لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فهذه المناظرة والمخاصمة التي تحصل بين العابدين والمعبودين هي في حق الآلهة الباطلة كالأوثان أو الشياطين أو نحوها من الآلهة الباطلة، وأما الصالحون الأخيار الذين عُبدوا وهم لا يعلمون فكما قال الله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:116 - 117]، ولم يعبد المسيح ولا عزير ولا الأولياء والصالحون فقط، بل قد عُبد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو لا يرضى بهذا الكفر وهذا الشرك، فكثير من المسلمين أشركوا وعبدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أتى ليدلنا على الطريق إلى الله، فعبده بعض الناس الذين ينتسبون إلى الإسلام بالمدح المحذور، والإطراء المنهي عنه، كما يقول بعضهم في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فهذا مدح لا يرضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكل من عبد بغير رضاه كالملائكة، والصالحين، والأنبياء فإنهم يتبرءون من عابديهم، ويكذّبون زعم هؤلاء العابدين، ويبينون افتراءهم، فالملائكة لم تقبل هذه العبادة، ولم ترض بها، والذين طلبوا هذه العبادة هم الجن؛ كي يضلوا البشر ويوبقوهم، فهؤلاء الضالون عابدون للجن لا للملائكة كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41]، وعيسى بن مريم عليه السلام -كما بينا آنفاً- يتبرأ من كل من عبده واتخذه إلهاً من دون الله سبحانه وتعالى، يقول عز وجل عن جميع هؤلاء: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ * وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [النحل:86 - 87].
وقال سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس:28 - 30].