ومن شبههم: أنهم يتعللون بوجود الأحاديث الموضوعة بسبب النزاعات السياسية، وما وضعه الزنادقة، ووجود الإسرائيليات وغير ذلك مما دخل في الدين، فاختلط الحق بالباطل.
فنقول: هناك أحاديث كثيرة بهذا الوصف لا ننكرها وبعض الناس تضيق عقولهم عن فهم هذا الأمر فيقولون: قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ولم يقل هذا في السنة، فنقول: إن الذكر يشمل القرآن والسنة، وهذا الحفظ له أسباب، وهناك حكم وراء عدم وجود السنة خالية من الضعيف كالقرآن الكريم، والحكمة: أن هذا يفتح أبواباً من التعبد والجهاد والرحلة في طلب العلم والتحديث، وهذه كلها تدخل تحت قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، وكما قلنا: إن هذه الأمور لا تختلط إلا على الجاهل الذي ينازع الأمر أهله، لكن إذا رجع إلى العلماء فإنه يسهل جداً الحكم على هذه الأحاديث.
جاء عن حماد بن زيد أنه قال: وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألف حديث، وجيء إلى هارون الرشيد بزنديق فأمر بقتله -وهارون الرشيد رحمه الله تعالى يستحق أن تُدرس سيرته بمنتهى الدقة؛ حتى تصحح الصورة المشوهة التي وضعها له أعداء الإسلام؛ ليبغضوا في الخلافة الإسلامية، فقد كانت سيرته عطرة، وفيها أشياء كثيرة جداً ينبغي أن نعلمها؛ لنصحح صورته المشوهة، ومن ذلك غيرته الشديدة على السنة- فقال له: يا أمير المؤمنين! أين أنت من أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم: أحرم فيها الحلال، وأحلل فيها الحرام، ما قال النبي صلى الله عليه وسلم منها حرفاً؟! فقال له الرشيد: أين أنت يا زنديق! من عبد الله بن المبارك، وأبي إسحاق الفزاري ينخلانها نخلاً، فيخرجانها حرفاً حرفاً.
فالناقد البصير الذي عنده خبرة هو الذي يستطيع أن يميز الزائف من الصحيح.
وقد اختلطت الأحاديث فعلاً في مرحلة من المراحل صحيحها بضعيفها، فقام العلماء ووقفوا منها الموقف الإسلامي الصحيح، فلم يقبلوا الأحاديث كلها؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لحرفوا دين الله ففيها المكذوب، ولم يتركوها كلها؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لضيعوا دين الله ففيها الصحيح، ولكنهم شمروا عن ساعد الجد، وصرفوا في سبيل ذلك كل أوقاتهم، فتتبعوا أحوال الرواة؛ لأن ذلك يساعد في عملية النقد وتمييز الطيب من الخبيث، ودونوا في ذلك المدونات، وأحصوا فيها أحوال كل راو من حيث ولادته، وبأي بلد ولد، وكيف هو في الدين والأمانة والعقل والمروءة والحفظ؟ ومتى شرع في الطلب؟ ومتى سمع؟ وكيف سمع؟ ومع من سمع؟ وهل رحل؟ وإلى أين رحل؟ وذكروا شيوخه الذين يحدث عنهم وبلدانهم ووفياتهم، ووضعوا قواعد لنص المتن أحكموها؛ حتى يتبين لهم الحديث الصحيح من الضعيف، وهكذا استطاع هؤلاء العلماء أن ينفوا عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المكذوب الموضوع، وبذلك تحقق وعد الله بحفظ هذه الشريعة، وحمايتها من كل ما أصاب غيرها من عوامل التحريف والبطلان، حتى نُقل عن مارجليوث، وهو مستشرق يهودي خبيث، وكان شديد الحقد على الإسلام، لكنه لم يستطع أن يكتم هذه العبارة التي قال فيها: ليفتخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم، وما زالوا في جد واجتهاد حتى استطاعوا أن يصلوا إلى قواعد نقدية راقية، بها يميزون الخبيث من الطيب من الحديث، وكانت هذه القواعد أرقى ما يمكن أن يصل إليها عقل بشري في تحقيق نسبة الأقوال إلى أصحابها.
فقد شهد بذلك القريب والبعيد، والصديق والعدو، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
وقيل لـ عبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة، فقال: يعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فالذكر هنا يشمل القرآن والسنة، والذي تعهد بحفظ القرآن هو الذي تعهد أيضاً بحفظ السنة.
ومر الإمام أحمد على نفر من أصحاب الحديث وهم يعرضون كتاباً له فقال: ما أحسب هؤلاء إلا ممن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى تقوم الساعة).
قال ابن حبان: ومن أحق بهذا التأويل من قوم فارقوا الأهل والأوطان، وقنعوا بالكسر والأطمار في طلب السنن والآثار، يزورون البراري والقفار، ولا يبالون بالبؤس والإقتار، متبعين لآثار السلف الماضين، وسالكين نهج محجة الصالحين، برد الكذب عن رسول رب العالمين، ونبذ الزور عنه حتى وضح للمسلمين المنار، وتبين لهم الصحيح من الموضوع والزور من الأخبار.