وقد فُتن مصطفى محمود من بداية المراهقة المبكرة بنظرية داروين، وتبنى هذه النظرية، وبدأت مرحلة الرفض في حياته، وعمّقتها نزاعات التمرد عند المراهق وأقرانه الذين كانوا يشاركونه في معاناة تجربته العنيفة، وقد عانى من الشك الحاد في النبوات والرسالات الإلهية، وكان هذا رد فعل للمظاهر الشاذة التي رآها من زوار ضريح البدوي وغيره في طنطا، فظن أن الدين ليس إلا هذه الخزعبلات، ولم يستطع أن يفرق بين الأصيل والدخيل.
ثم غلبت عليه ثورة داخلية فرحل إلى إحدى مدن المغرب سنة 1948م يلاحق رجال التصوف؛ بحثاً عن الحقيقة كما يقول، فالتمس الري من كئوس أصحاب الطرق وشطحاتهم، وتخرج من كلية الطب سنة 1952م، وتخصص بعد ذلك في الأمراض الصدرية، ثم تفرغ للأدب والفكر، وأول دواسير مؤلفاته مجموعة قصصية تسمى: (أكل عيش) وذلك في سنة 1954م، وتلاها سنة 1955م كتاب (الله والإنسان)، وفيه محاولة التشكيك في كبرى اليقينيات، والتشكيك في الرسالة والرسل، وعكس هذا الكتاب الصراع الذي كان يطحنه بين قراءته غير الناضجة وشواذ بيئة طنطا التي أفسدت تصوراته عن حقيقة الدين، وضميره وبقايا إيمانه القليل من جهة ثالثة، كذلك عانى الصراع النفسي بين التشكك في القرآن نفسه وبين الاطمئنان إليه، وقد دفع ثمن تلك الشطحات، فنهض الأزهر بواجبه وصودرت معظم نسخ الكتاب، وقُدَّم مصطفى محمود إلى محكمة أمن الدولة، ولكنه نجا من هذه المحاكمة حيث كان القضاة متصوفين، وكان محاميه متفلسفاً، فرافع بأن الكتاب يسجل بداية المتصوف لا تهجمات ملحد، فاكتُفي بمصادرة الكتاب، والكف عن ملاحقة مؤلفه.
وألف كتابه (إبليس) سنة 1958م، وحاول أن يفسر قصة إبليس على طريقة فاضل عباس المهداوي، الذي أعلن في إحدى محاكماته أنه لا وجود لذات اسمها إبليس، وإنما هو رمز للنزغات الشريرة في النفس البشرية، ثم حكم المؤلف نفسه على هذا الكتاب فيما بعد بأنه هو وكتاب (الله والإنسان) كانا تعبيراً عن ذروة الشك، ومتعاطفين مع الفكر المادي الذي كفر به فيما بعد، وقال مصطفى محمود: صودر الأول وهو كتاب (الله والإنسان) ولم يطبع ثانية، فصادرت أنا الثاني (إبليس)، فلا أسمح بإعادة طبعه، ولقد اعتاد الكاتب أن يخلط أو أن يخبط ويشوش ويضطرب ببعض كتاباته المرفوضة التي تترك في القلوب الهشة جراحاً ليس من اليسير تضميدها، وإن رفع عقيرته بإنكارها فيما بعد، أو بتراجعه عنها، فإنه يتوب من بعضها في حين يبقى كثير من الناس تؤذيهم وتجرحهم هذه الكتب، فنخلص من هذه المحطة إلى أن مصطفى محمود ليس مصدراً آمناً لتلقي الحق، فهو كـ أبي حامد الغزالي تماماً.
وهكذا نجد أن من فسد ابتداؤه بأن فتح عينيه على الضلالات والفلسفات وأهل الكلام والتصوف والبدع فإنه يتلون: كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل وهكذا كانت سيرة الجويني والرازي والغزالي وكثير من المعاصرين، وعلى أي الأحوال فالأمر كما قال بعض السلف: إن هذا الأمر دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فالاضطراب والتشويش والحيرة سمة من سمات هذه الشخصية: ولن يستقيم الظل والعود أعوج ثم تولى هو محاكمة كتابه (إبليس)، أو كتاب (الله والإنسان)، فقطع بأنه عمل متهور لا يرضى عنه قلبه ولا عقله، ثم أكبّ على الفلسفة قديمها وحديثها، وعلم النفس بنظرياته، ونظريات فرويد على الخصوص، ثم انتهى إلى أن الفلسفة لا تعدو كونها حجَراً يُلقى في بحيرة مجهولة فيضاعف عكرتها، ولا يرجع منها بصيد.
ثم انتقد الفرويدية والماركسية؛ لأنهما يحشران الإنسان في حظيرة البهائم، ويجريان عليه كل الأحكام التي تخص الحيوان، وانتهى إلى أن العلم المادي ليس في مقدوره تقديم أجوبة مقنعة على أسئلة النفس حول الدين، فذهب ينشد الهدى من خلال مباحث الأديان، فراح يبحث عنه في الوثنيات الهندية، مروراً بالديانات ذات الأصل السماوي، إلى النحل المعاصرة: البادية، والبهائية، والقاديانية، وانتهت هذه السياحة برسو زورقه الحائر على شاطئ القرآن البليغ.
وإذا نظرنا أين تعلم؟ وعلى يد من تعلم؟ ولمن قرأ؟ فسنستخلص أنه ليس من أهل العلم، وبالتالي فكلامه ككلام الذي يقف في السوق ويقول: أنت تقدم، وأنت تسجن خمسة وعشرين عاماً، وأنت تسجن ثلاثة أشهر إلى آخره، فهذا كلام في الهواء، فما كان ينبغي لنا أن ننشغل بالرد عليه بهذه الطريقة.
فبدأ اعتناءه بالقرآن والتفسير، وتأثر بـ سيد قطب رحمه الله في كتابه (في ظلال القرآن)، و (الظلال) فيه كثير من الأخطاء الشديدة، وليس هذا موضوعنا الآن، وكذلك تأثر بـ ابن كثير في تفسيره، وقرأ (الإحياء) و (المنقذ من الضلال) وأنا لا أسميه أبداً: (إحياء علوم الدين)؛ لأن بعض العلماء سموه: (إماتة علوم الدين) فسنسميه: (الإحياء) اختصاراً، وهذا حديث له موضع آخر، وكتاب (المضنون به على غير أهله)، وكل هذه الكتب للغزالي، وكذلك حِكَم ابن عطاء الله السكندري، فانتهى إلى أن التصوف هو البحر الذي تصب فيه سائر الجداول، ولا شك أن هذا كلام صحيح، فالتصوف هو البحر الذي تصب فيه كل المصارف والجداول، ويتسع للجيف واللآلئ، ويجمع بين الغثاء والجواهر.
ولا يحسن التمييز بين الجيف واللآلئ، ولا بين الغثاء والجواهر إلا الحذاق من أهل الفرقان، والقادرون على الغوص إلى الأعماق.
إنّ علاج هذه الحيرة موجود في منهج أهل الحديث، وعقيدة أهل السنة والجماعة، لكنه حرم من تراث علماء السنة وبخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وتلاميذ مدرسته العدول المجددين الذين طهر الله بهم الدين من تحريفات الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.