بدعة لا خلاف في تكفير أصحابها

القسم الثاني: بدع لا خلاف في تكفير أصحابها، يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: المحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهة وأمثال هؤلاء.

ويقول شيخ الإسلام أيضاً: المشهور من مذهب الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية -وهم المعطلة لصفات الرحمن- الذين ينفون صفات الله سبحانه وتعالى جميعاً، فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب، وحقيقة قولهم جحود الصانع، فنفي الصفات بهذه الطريقة التي يسلكها الجهمية يئول إلى نفي وجود الله سبحانه وتعالى، ففيه جحود الرب وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، يعني: كلام الجهمية أشد عنده من كلام اليهود الذين يقولون: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]، أو الذين يقولون: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، أو الذين يقولون: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، أو {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17].

قال غير واحد من الأئمة: إنهم -أي: الجهمية- أكفر من اليهود والنصارى، ولهذا كفروا من يقول: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وإن الله ليس على العرش، وإن الله ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب ونحو ذلك من صفاته.

وفي هذا الزمان هناك بدع كثيرة جداً ينبغي أيضاً ألا نختلف في تكفير أصحابها، مثل بدعة العلمانية، فهي أخطر البدع الموجودة في هذا الزمان على الإطلاق، وبدعة العلمانية تعني فصل الدين عن الحياة، وعزله في جدران المساجد، وإبدال كل حدود الله فيما يتعلق ببناء المجتمع على أساس الكتاب والسنة.

فهذه بلا شك بدعة مكفرة، ومن يعتقد هذا بعد أن تقوم عليه الحجة يكون خارجاً من ملة الإسلام، فمن يعتقد فصل الدين عن الحياة، لتكون الحياة بالطريقة التي يعتقدها العالم الغربي الجديد، فهو كافر، ولا يمكن أن يجمع بين الإسلام وبين العلمانية، فالعلمانية تشرق والإسلام يغرب، العلمانية تبيح الربا والفواحش، وتبطل قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبطل إقامة حدود الله وغير ذلك من المضادة الصريحة والمعاندة الواضحة لدين الله سبحانه وتعالى.

فالعلمانية من البدع المكفرة.

أما البدع المختلف في تكفير أصحابها فمثل بدعة القدرية الذين يقرون بصفة العلم، والروافض الذين ليسوا من الغالية والجهمية والخوارج.

فهناك عن الإمام أحمد روايتان في تكفير هؤلاء، مع أنه وارد عن الإمام أحمد التوقف عن تكفير القدرية المثبتين للعلم والخوارج، مع أنه قال: ما أعلم قولاً شراً من الخوارج.

والجهمية عند كثير من السلف ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها الأمة، لكن لا نستطيع أن نغادر هذا الضابط وهو تقسيم البدعة إلى بدعة مكفرة بالاتفاق، وبدعة غير مكفرة بالاتفاق، وبدعة مختلف في تكفير صاحبها، حتى نضيف ضابطاً آخر ومهماً جداً وهو: التفريق بين كفر النوع وكفر العين.

يعني: كفر النوع لا يستلزم كفر العين، البدعة نفسها تكون كفراً لكن لا يكون الشخص المتلبس بها كافراً، فهذه قاعدة سبق أن سردناها بالتفصيل في بحث الكفر والإيمان لكن نشير إليه.

فإن أهل السنة والجماعة يفرقون بين الحكم المطلق على أصحاب البدع بالمعصية أو الفسق أو الكفر وبين الحكم على شخص معين ممن ثبت إسلامه بيقين، فالشخص إذا ثبت إسلامه بيقين لا يمكن أن تنفى عنه صفة الإسلام إلا بيقين.

فمن صدر عنه إحدى هذه البدع لا يمكن الحكم عليه، لا نقول عليه: كافر أو فاسق أو عاص إلا بتوفر شروط، وانتفاء موانع، فلا يحكمون عليه بذلك حتى يبين له مخالفة قوله للسنة؛ وذلك بإقامة الحجة، وإزالة الشبهة، كمن يفرقون بين نصوص الوعيد المطلقة وبين استحقاق شخص بعينه هذا الوعيد في أحكام الآخرة؛ لأن موضوع التكفير موضوع مرتبط بباب الوعيد؛ لأن التكفير نوع من الوعيد، بل أي فعل يترتب عليه أنه وعيد قد يكون أقل من الكفر، لأن الكفر أشد الأفعال وعيداً.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إني من أعظم الناس ناهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية.

لأن بعض الناس يعتبرونها بطولة أن يكفر شخصاً بعينه أو يبدعه، وليست بطولة يقول صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك لسانك) لا تتكلم إلا بعلم وحجة، لكن تكلم بكلام عام في المواعظ، ودروس العلم، والخطب، وغير ذلك من مقامات الدعوة والترغيب والترهيب، تنفر من البدع بالنصوص الشرعية العامة.

لكن أن تكفر الشخص بعينه فهذا لا ينبغي أن تحكم عليه بكفر أو بتفسيق أو ابتداع حتى تستوفي شروطاً معينة، وهذا من خصائص القضاء الشرعي، ولا تنازع الأمر أهله، نريد أن نقول: إن موضوع الحكم على كفر النوع هذا لا يكون على المنابر أو في الدروس والخطب، وبأن الأمر يمكن في مثل هذه المحافل أن يتكلم عنه بصفة عامة تنفيراً من البدع ووصف الكفر بأنه كفر وهذا لا حرج على الإطلاق فيه.

لكن في مقام التأصيل والتقعيد والتنظير ومحاكمة الناس ليست المسألة عبثاً ولا هوى، وإنما ينبغي التحقق والتحري والتدقيق والتثبت، فمن هنا نقبل في الحقيقة هذه الكلمة التي قالها المودودي رحمه الله في كتابه: (نحن دعاة لا قضاة) فالإنسان عليه أن يدعو، لكن القضاء الشرعي والحكم على الناس بأعيانهم هذه ليست وظيفة الدعاة، وهذه الأحكام يترتب عليها أمور عملية، إذا حكمت عليه بالردة يترتب عليه أنه يجب أن يقتل ويفرق بينه وبين زوجته وغيرها من الأحكام الشرعية المعروفة.

فالقضية يجب أن نفرق بين وظيفة الداعية وبين وظيفة القاضي الشرعي، وقد بايع النبي عليه السلام الصحابة على ألا ننازع الأمر أهله.

يقول شيخ الإسلام: إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها؛ وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية.

إنما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق يعني: لا تعارض بين العلماء الذين يقولون مثلاً: حكمي في الشخص الذي يقول: لا أعرف أربي في السماء أم في الأرض أنه كافر! كما قال أبو حنيفة: من قال: لا أعرف أربي في السماء أم في الأرض فقد كفر.

وقال: حكمي في هؤلاء أن يقتلوا وأن يلقوا يعني: لا يدفنوا لا مع المسلمين، ولا مع اليهود والنصارى، بل يلقون على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل الإسلام ولا أهل الكتاب أو كما قال، فهذا الكلام في كفر النوع.

أما كفر العين في الشخص نفسه فلا يحكم عليه بذلك حتى تستوفى الشروط وتنتفي الموانع.

يقول شيخ الإسلام: إنما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، الإطلاق أن تقول: من قال كذا فله مثلاً عذاب كذا، لكن تعيين أن هذا الشخص بعينه ملعون أو أنه كافر وأنه من أصحاب النار! هذا لا يجوز إلا بنص من وحي، أبداً حتى الكافر الموجود الآن كلينتون، أو بوش أو أي أحد من الكفار، فهذا لا تقول هو في النار؛ لأن الخواتيم مغيبة، والأعمال بالخواتيم، نعم هو في الدنيا تجري عليه أحكام الكفر، لكن لا تقل: هو بعينه من أهل النار؛ لأنك لا تدري بخاتمته، وهذا افتئات على حدود الله سبحانه وتعالى وحرماته، لكن تقول: إن مات على الكفر فهو في النار.

يقول شيخ الإسلام: لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار، وهي مسألة الوعيد، فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، هذه مطلقة في الذي يأكل مال اليتيم، لكن لما تأتي تحاسب شخصاً باسمه: فلان أكل مال اليتيم، هل تستطيع أن تقول: إنه في النار؟ لا تستطيع أن تقول ذلك، لماذا؟ سيأتي الجواب.

كذلك سائر ما ورد من النصوص: من فعل كذا فله كذا مثلاً: (لعن الله الواشمة والمستوشمة) وغير ذلك، فإن هذه مطلقة عادة، وهي بمنزلة قول من قال من السلف: من قال: كذا فهو كذا، تماماً كما لو قال: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، من قال كذا فهو كافر، من قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقد كفر.

هذا هو الحكم من حيث الإطلاق في كلام ابن تيمية، لكن الشخص المعين فقد يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة مثل هذا الشخص الذي قال هذا الفعل سواء كان كفراً أم دون الكفر، فيمكن أن يلغى حكم استحقاقه لهذا الوعيد؛ لأنه ربما يكون تاب: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10].

فإذاً: الحكم باستحقاقه للوعيد قد يلغى بتوبة يتوب إلى الله سبحانه وتعالى ولا يطلع عليها إلا الله، فيمكن أن يلغى بحسنات ماحية، هو ارتكب هذه المعصية لكن في الجهة الأخرى عمل بعض الحسنات التي محت عنه هذا الوعيد، ويمكن أن يلغى هذا الوعيد بمصائب مكفرة يبتليه الله سبحانه وتعالى بمصائب تكفر عنه ما استحقه من الوعيد، ويمكن إن لم يكن هذا ولا هذا ولا ذاك أن يلتغي حكم الوعيد بشفاعة مقبولة يشفع فيه النبي عليه الصلاة والسلام، أو تشفع فيه الملائكة أو يشفع فيه قريب له شهيد، أو يشفع فيه أحد من إخوانه المؤمنين يقول صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015