البدع الشرعية كلها مذمومة، وهي التي سنناقشها، وليس كلامنا الآن في البدعة من حيث المعنى اللغوي.
والبدعة كما عرفها الشاطبي في الاعتصام: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى.
والطريقة والطريق والسنن كلها بمعنى واحد: وهو ما رسم للسلوك عليه.
قوله: (في الدين) الدين: هو ما شرعه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من العقائد والعبادات والمعاملات.
والطرائق في الدين نوعان: هناك طريقة لها أصل في الدين، وطريقة ليس لها أصل في الدين، فالطريقة التي لها أصل في الدين ليست مخترعة، فمثلاً العلوم الخادمة للعلوم الشرعية مثل علم النحو والصرف مفردات اللغة أصول الفقه مصطلح الحديث، كل هذه طرق جيدة في الدين، السلف لم يدرسوا هذه العلوم بهذه الطريقة المدرسية التي ندرسها الآن، أو التي وجدت بعدهم، فهي طريقة في الدين لكنها ليست مخترعة؛ لأن لها أصلاً في الدين.
فأصل هذه العلوم موجود في الشرع وإن لم توجد في الصدر الأول بنفس الكيفية؛ لأن الصحابة من سليقتهم كانوا فصحاء بلغاء، ولا يمكن أن يلحن الواحد منهم، فلما وقع اللحن وضعت هذه العلوم، فهي طريقة في الدين لكنها ليست مخترعة، فهي عبارة عن تسهيل وتخفيف وتيسير لطلبة العلم.
أما النوع الثاني من الطرائق في الدين فهو: طريقة في الدين لا أصل لها، وهي طريقة في الدين مخترعة.
فقولنا: (مخترعة) احترازاً من الطريق التي لها أصل في الدين.
فهي طريقة ابتدعت على غير مثال سابق من الشرع، فهذا معنى مخترعة.
(تضاهي الشرعية): يعني: أنها تشبه الطريقة الشرعية، فمن المعلوم أن الباطل لا يقبل إلا إذا كان فيه شيء من الحق، فلو أن المبتدع أو المضل أخرج الباطل باطلاً محضاً لا يخالطه حق، فإنه يسهل كشفه ولا ينتفع به أحد، لكن لابد للمبطل أن يخلط الباطل بشيء من الحق حتى تروج بضاعته على الناس، فلذلك عندما نقول: إن البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية بمعنى: أنها تشبه الطريقة الشرعية لكنها في الحقيقة ليست شرعية، فهي مجرد مشابهة، لكن في الحقيقة ليست طريقة شرعية، بل هي تتصادم مع الطريقة الشرعية من أوجه شتى.
فالبدعة فيها وضع حدود خاصة للتعبدات، مثل رجل يريد أن يعبد الله فينذر أن يصوم، ويظل مع صومه قائماً ضاحياً في الشمس لا يستظل، فوضع كل هذه الكيفيات المخترعة للتعبد بدعة في الدين، ومثل الإنسان الذي يتعبد بالاقتصار على نوع معين من الملبس أو المأكل، فهذه أيضاً طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك.
كذلك التزام كيفية معينة من ذكر أو عدد معين أو صفة معينة والمحافظة عليها فهذه أيضاً طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، وهكذا فالمبتدع دائماً يخلط البدعة بشيء من الحق، حتى يموه على الناس، ويسهل إضلالهم بها.
قوله: (تضاهي الشرعية) أي: أنها طرائق تضاهي الشرعية كما حصل من كفار قريش عندما كانوا يبتدعون في الدين أشياء يزيدونها على ملة إبراهيم عليه السلام ينطبق عليها معنى البدعة، فمثلاً عندما كانوا يعبدون مع الله سبحانه الآلهة الباطلة، كانوا يستدلون على هذه العبادة بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
كذلك أيضاً كانوا يطوفون بالبيت عراة، وهذا الفعل سماه الله تعالى فاحشة في قوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]، ويقولون: لا نطوف بثياب عصينا الله فيها، فهذا فيه مضاهاة للطريقة الشرعية.
كذلك كان المتشددون من قريش في الجاهلية يرفضون الخروج إلى عرفات، ويصورون عدم خروجهم إلى عرفات بأنهم يعظمون الحرم، ويقولون: نحن لا نخرج من الحرم تعظيماً للحرم، ويرفضون الخروج إلى عرفات، فهذا أيضاً من بدعهم.
كذلك من هذه الطرق المبتدعة في الدين ما يدعيه الصوفية من أنهم يعبدون الله لا خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، ولكن حباً فيه، وهذا من الطرق المبتدعة في الدين.
قوله: (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى)، هذه من أركان تعريف البدعة، فالمبتدع ينظر إلى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فيظن أن المقصود هو العبادة، لكنه يغفل عن حقيقة أخرى غير استحقاق الله وحده للعبادة، وهي أنه كما نوحد الله بالعبادة كذلك يجب أن نوحد رسوله بالاتباع والاقتداء، فلا نقتدي بغير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنعبد الله بما شرع، ولا نعبده بالبدع؛ لأننا إذا تقربنا إلى الله بغير ما شرعه على لسان رسول الله عليه الصلاة والسلام فمعنى ذلك أننا نتهم الشرع بالنقص، وأن الرسول ما استوفى وسعه في نصيحتنا، وأنه كانت هناك أشياء تقربنا إلى الجنة وتباعدنا من النار؛ وهو عليه الصلاة والسلام -وحاشاه- قد كتمها ولم يدلنا عليها! فهذا اتهام للشرع بالنقصان.
قوله: (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى) معنى ذلك: أن البدع لا تدخل في العادات؛ لأن الفارق بين العادة والعبادة هو النية، فإذا انضاف إليها نية التقرب إلى الله كانت بدعة.
مثلاً: إذا كان إنسان لا يأكل اللحم؛ لأنه لا يعجبه أو يؤذيه من الناحية الصحية أو لا يحبه بطبعه فليس عليه الحرج ما دام في نطاق العادات، أما إذا امتنع رجل آخر من اللحم تعبداً، ويقول: أتقرب إلى الله بترك اللحم، فهذا هو الذي يدخل في حد البدعة، والفرق بينهما النية، ولذلك قال الشاطبي في التعريف: يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى.