إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة, من يطع الله ورسوله فقد رشد, ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته, كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم, وبارك على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أما بعد: فهناك سؤال يتكرر كثيراً, فتعقبه علامة استفهام واحدة، وتعقبه عدة علامات تعجب، وهو: لماذا يتحد العالم كله ضد الإسلام والمسلمين فيما يشبه حرباً عالمية شاملة على كل مستوى وفي كل صعيد؟ ولماذا هذه المذابح في البوسنة وبورما وتايلند وغيرها؟ ولماذا هذه الحملات على كل من يرفع شعار الإسلام ويدعو إليه؟ ولماذا يستثنى المسلمون بالذات حينما يتكلمون عن حقوق الإنسان, وحينما يستنكرون المذابح يقولون: إلا المسلمين، وحينما ينادون بما يسمى بالديمقراطية يقولون: إلا المسلمين؟ لماذا هذه القفزة الهائلة التي قفزها العلمانيون أعداء الله وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين أساءوا لدينه وأساءوا لسنته، فقد كانوا من قبل يستخفون بعلمانيتهم, وإذا بهم اليوم يجاهرون وبلا أدنى استحياء؟ كل هذه الأسئلة وعشرات أمثالها جوابها عبارة واحدة وهي: أنهم يكرهون الإسلام ويخافون منه.
والسؤال المنطقي الذي يفرض نفسه هو: لماذا هذا الحقد على الإسلام؟ ولماذا هذا الخوف من الإسلام؟ إنّ الذين يخافون الإسلام هم الكفار سواء الغربيون منهم أو الشرقيون, والمنافقون عباد الأهواء والشهوات، الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نراهم وكما نحس بهم في زماننا هذا: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قالوا: يا رسول الله! صفهم لنا، جلهم لنا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا).
وبين الفريقين: الأول الكافر، والثاني المنافق الزنديق صلات أكيدة، وروابط وطيدة وعلاقات وثيقة، كتلك التي تكون بين التاجر والسمسار, أساسها الربح المتبادل للطرفين، أو كتلك العلاقات الوطيدة والحميمة التي تقوم بين الحمار وراكبه, وأساسها السخرة والاحتقار, فالعالم الكافر بكل أبعاده وإمكاناته ودوله يريد علواً في الأرض وفساداً، ويردد مقولة أعداء الإسلام في كل عصر وفي كل مصر, وهي مقولة فرعون: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [يونس:78] , ويردد شعار ألمانيا, ذلك الشعار النازي الذي يزعمون أنهم يستنكرونه على هتلر وأمثاله، وهو: ألمانيا فوق الجميع, وهم في الحقيقة يرفعون هذا الشعار ليكون الكفر بأشكاله وألوانه فوق الجميع، فهذا الصراع هو صراع من أجل العلو في الأرض والإفساد فيها كما قال الله تبارك وتعالى.
فيرفع هذا الشعار على أيدي أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من الملاحدة مع تغيير ألفاظه، وجمع العالم كله في نفس الوقت لتحقيق معناه ومضمونه, فإنهم لما فشلوا في مقاومة الإسلام عسكرياً لجئوا إلى عدة أساليب, فلجئوا إلى إضعاف قوة البلاد الإسلامية, ولجئوا إلى تدمير طاقات البلاد الإسلامية, فتقوم الدنيا وتقعد إذا قيل إن باكستان عندها أسلحة نووية، ويطالبونها بالتفتيش، ويقاطعونها من كل مكان وغير ذلك من الإجراءات المعروفة، أما حينما يكون عند اليهود في فلسطين ترسانة من الأسلحة النووية فلا حرج ولا ضير؛ لأن القاعدة كما ذكرنا: إلا المسلمين، فعمدوا إلى تمزيق الأمم الإسلامية إلى دويلات وشعوب، بحيث لا تجتمع اثنتان منهما على هدف واحد له قيمة, يقول المستر ميرن براون: إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً, أما إذا بقوا متفرقين, فإنهم حينئذ بلا وزن ولا تأثير، فيجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين؛ ليبقوا بلا قوة ولا تأثير.
ومما فعلوه أيضاً: قهر الشعوب الإسلامية وإذلالها على أيدي حكام طغاة, يقول نك، وهو خبير أمريكي لشئون باكستان: إذا أعطي المسلمون الحرية في العالم الإسلامي، وعاشوا في ظل أنظمة ديمقراطية، فإن الإسلام ينتصر في هذه البلاد، وبالدكتاتوريات وحدها يمكن الحيلولة بين الشعوب الإسلامية ودينها.
ومن ذلك أيضاً إشغال هذه الأمة بالأهداف الحقيرة حتى لا تنتبه إلى الهدف الأكبر الذي عبر عنه ربعي بن عامر رضي الله عنه لما سأله قائد الفرس: ماذا جاء بكم؟ فقال: إنّ الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه, لكننا بدلنا هذا الهدف، وبدلنا هذه البطولات، وصار شغلنا الشاغل إما أفكار عفنة خبيثة جاهلية: كالقومية والوطنية والاشتراكية والناصرية، والكتب البيضاء والخضراء والصفراء والحمراء، أو الاشتغال بالفن والرياضة والكرة والتمثيل وغير ذلك من السفاهات، فانصرفت الأمة عن هدفها الأعظم، وصارت البطولة ما نراه في ساحات الملاعب، وساحات الفن والأفلام والمسرحيات فقط، وصار أصحابها هم الأبطال، وصارت هذه هي القيم والمثل التي ينبغي أن نذب عنها, وقد كان للشعوب الإسلامية حظ وافر من هذه المؤامرات, وقد عبر عن ذلك المنصر المشهور صموئيل زويمر مخاطباً إخوانه التبشيرين المنصرين في أحد المؤتمرات قائلاً: إن مهمة التبشير التي ندبتْكم ديانتكم المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست في إدخال المسلمين إلى المسيحية؛ فإن هذا شرف لا يستحقونه، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من إسلامه ليصبح مخلوقاً لا صلة له تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها, وبعملكم هذا تكونون طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية, ولقد هيأتم جميع العقول في الممالك الإسلامية لقبول السير في الطريق الذي سعيتم إليه، وهو إخراج المسلم من الإسلام, إننا نريد أن تعدوا جيلاً مطابقاً لما أراده له الاستعمار, جيلاً لا يهتم لعظائم الأمور، ويحب الراحة والكسل، ويسعى للحصول على الشهوات بأي أسلوب، وتصبح الشهوات هدفه في الحياة, إن تعلم فللحصول على الشهوات، وإن جمع المال فللشهوات، وإن تبوء المراتب ففي سبيل الشهوات, ويذود بكل شيء في سبيل الشهوات, أيها المبشرون! إنكم إن فعلتم ذلك تمّت مهمتكم على أكمل الوجوه.
لقد تعلموا دروساً كثيرة جداً من التاريخ، وأدركوا أن مخططاتهم وعلوهم في الأرض لا يمكن أن ينجح أبداً إلا في حالة غيبة الإسلام، ففي الحروب الصليبية جاءت جيوشهم الجرارة الكثيرة فتصدى لهم الإسلام، ودحرهم، وأذلهم، وكسر أعناقهم، وذلك في شخص صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى, وفي الغزو التتاري تصدى لهم الإسلام في شخص قطز والظاهر بيبرس، ثم حصلت أكبر معجزة ولم يحصل لها مثيل في التاريخ، وهي أن الإسلام المغزو غزا قلوب التتار، وتحولت هذه الأمة العظيمة القاهرة الغازية إلى عباد لله سبحانه وتعالى، وأسلموا دينهم لله، وقد رأوا ذلك في الهند, ورأوه في أفغانستان أيضاً، وليس هذا مع بوش فقط مؤخراً، بل وقع ذلك من قبل مع الإنكليز, فرأوه في ثورة الجزائر ضد الفرنسيين, ورأوه في فلسطين, ورأوه في مصر على ضفاف القناة، فتأكدت لديهم هذه الحقيقة، وهي أن العلو في الأرض الذي يسعون إليه, والسيطرة على العالم, والفوقية على عباد الله، مرهونة كلها بغيبة الإسلام وجنوده.
لهذا فهم يخافون الإسلام؛ لأنه قادر على أن يصنع أمة واحدة {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] , قادر على أن يصنع أمة قوية {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] , قادر على أن يصنع أمة مجاهدة: (من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق) , أمة يحب رجالها الموت في سبيل الله أكثر مما يحب هؤلاء الكفار الحياة, وحرصهم على الموت أشد من حرص أولئك على الحياة، ويرددون قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52].
الإسلام قادر على أن يصنع أمة مؤهلة للقيادة، ولا ترضى بدون منصب الأستاذية للعالم كله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] , قادر على أن يصنع أمة لا توالي أعداء الله، ولا تنخدع بألاعيبهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118]، وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].
ويخاف الكفار من الإسلام؛ لأنه يربي شعوباً محصنة ضد مؤامراتهم وسماتهم الشهوانية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38]، قادر على أن يصنع أمة لا تخشى الناس، ولا تخاف الموت، ولا تخاف انقطاع الرزق, يقول تعالى: {أَيْ