الحمد الله الذي أرشد عقول أوليائه إلى توحيده وهداها، وثبت كلمة الإخلاص في قلوب أحبابه على أمواج الامتحان باسم الله مجراها ومرساها، وأعمى بصائر المنافقين لما أدبرت عن الدين فلم تجبه إذا دعاها، فسبحانه من جبار عظيم لا يماثل ولا يضاهى، فجل رباً وعز ملكاً وتعالى إلهاً، أحمده سبحانه على نعمه التي لا تتناهى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف مدلولها لما تلاها، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بين كلمة التوحيد لفظها ومعناها، وجاهد عليها بلسانه وسنانه حتى أقرها وحمى حماها.
اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه الذين عضوا على سنته بالنواجذ وتمسكوا بعراها، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه -يعني: استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه- فقال بعض القوم: سمع ما قاله فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: أين السائل عن الساعة؟ قال: هأنذا يا رسول الله! قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) يعني: من علامات اقتراب الساعة تضييع الأمانة، فسئل كيف إضاعتها؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، وهذه هي محنة المسلمين في هذا الزمان، بل ومن قبل أزمان طويلة جداً، وتوسيد الأمر إلى غير أهله ليس فقط في أمور الوظائف والأمور العامة فيتخبط الناس كما فعل عبد الناصر -وأوهم الناس أنها منقبة عظيمة جداً، وأنها من العدل والحرية- حين جعل نصف المقاعد في المجلس النيابي للعمال والفلاحين، ولاشك أن العمال والفلاحين فئة من فئات المسلمين، لكن تدبير أمور المسلمين وتسيير حياتهم ومعاشهم تحتاج إلى ذوي كفاءة وعلم وبصيرة وفقه بالشرع وبأمور الدنيا والسياسة والاقتصاد، فكيف يكون نصف هذه المجالس التي تتخذ القرارات أناساً ليسوا من أهل هذا الأمر؟! هم يتقنون العمل، ويتنقون الزراعة، لكن ليسوا أهلاً لأن يوظفوا في هذه الوظائف، ويتخذوا القرارات المصيرية، فهذا من توسيد الأمر إلى غير أهله، وهذا من أشراط الساعة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (بين يدي الساعة سنوات خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه)، وفي بعض الروايات: (الرجل السفيه يتكلم في أمر العامة)، فهل هذا يوافق شرع الله تبارك وتعالى أن يعطى نصف المقاعد النيابية لأناس ليسوا أهلاً؟! والديمقراطية خبيثة، ولكن ياليتهم إذ اتبعوها أن يحترموها.
وروى الطحاوي في مشكل الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يوشك أن يغلب على الدنيا لكع بن لكع) لكع غالباً تكون في التحقير كما قال عمر للجارية التي تقنعت: تتشبهين بالحرائر يا لكاع؟! وهذا يوصف به الشخص اللئيم أو الحقير أو التافه.
قال: (يوشك أن يغلب على الدنيا لكع بن لكع، وأفضل الناس مؤمن بين كريمين) فوضع الرجل المناسب في المكان المناسب هو أحد القواعد الهامة التي لا تصلح حياة البشر بدونها، فلذلك تجد الفترات التي يتولى فيها الحكم أصحاب الكفاءات العالية من أصحاب الصلاح والتقى فترات مضيئة مشرقة في تأريخ الأمة الإسلامية، وأكبر خطأ يفسد نظام الحياة أن يتولى الحكم والولايات والمناصب أقوام غير أكفاء، يقودون الحياة بأهوائهم، ويترك الأخيار القادرون على تسيير الأمور إلى الأمثل والأفضل.
هذا في الوظائف العادية، فما بالك بوظيفة لا يصلح لها أي مخلوق ولا حتى الأنبياء والأولياء والملائكة، وليس من حقهم أن يشاركوا الله فيها، وهي وظيفة التشريع وتحليل الحرام وتحريم الحلال؟! فهذه لا يوجد بشر هو أهل لها، إنما هذا حق خالص لله تبارك وتعالى.