الجواب عن حديث حذيفة

الجواب عن خبر حذيفة من وجوه: الأول: أنه قد اختُلف في رفعه ووقفه، والصواب وقفه.

يعني أنّ بعضهم رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام وبعضهم وقفه على حذيفة، يقول: والصواب وقفه؛ فقد رواه ثلاثة من الحفاظ عن ابن عيينة به موقوفاً من كلام حذيفة، وهم: عبد الرزاق الصنعاني عند الطبراني في (الكبير)، وسعيد بن عبد الرحمن بن حسان المخزومي وهو: ثقة، ومحمد بن أبي عمر العدني وهو: صدوق، فتكون رواية ابن آدم التي رفع فيها الحديث إلى الرسول عليه الصلاة والسلام شاذة؛ لأن هذه الروايات الثلاث من الحفاظ الثقات تقف الحديث على حذيفة، ولم يرفعوه إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

قال: ومما يؤيد الوقف ما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن إبراهيم النخعي قال: جاء حذيفة فذكر الحديث موقوفاً دون أن يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الجواب من الناحية الحديثية.

وأما من جهة النظر فإن ابن مسعود لم يقبل رواية حذيفة، ولو كانت مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما تجاسر ابن مسعود على ذلك؛ فإن ابن مسعود كان من أئمة الصحابة وفقهائهم، وقد أفتى بخلاف ذلك، فقد صح عنه من طريق شداد بن الأزمع قال: اعتكف رجل في المسجد في خيمة له، فحصبه الناس -أي: رموه بالحصباء-، قال فأرسله الرجل إلى ابن مسعود، فجاء عبد الله، وطلب الناس، وحسّن ذلك.

أي: أقره على أنه يعتكف في المسجد.

فعلم بذلك أن حذيفة إنما قال ذلك اجتهاداً منه، ولم يكن ابن مسعود ملزماً باجتهاد حذيفة رضي الله تعالى عنه.

وكذلك قول ابن مسعود لـ حذيفة: (لعلك نسيت وحفظوا، أو أخطأت وأصابوا) فهذا تصريح منه بخطأ حذيفة ونسيانه رواية الحديث، وأما عمل عامة الصحابة بخلاف ذلك فهو الأصوب، فلعل حذيفة اشتبه عليه حديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فإنه قريب منه في اللفظ، لا سيما أن الخطابي قد ذكر في (معالم السنن) أن بعض أهل العلم استنبط من حديث النهي عن شد الرحال أن الاعتكاف لا يصح إلا في المساجد الثلاثة.

وهذا لا يصح؛ لأن النهي عن شد الرحال، أو الإخبار بمضاعفة أجر الصلوات في الحرمين لا يوجب تخصيص الاعتكاف بهذه المساجد، وإنما المقصود من الأحاديث بيان فضلها وشرفها وعلو مقامها، وأنها مختصة بشد الرحال، وليس هناك علاقة بين شد الرحال والاعتكاف، ولذلك يقول الشوكاني في (نيل الأوطار): قال عبد الله -يعني: رداً على حذيفة -: فلعلهم أصابوا وأخطأت.

فهذا يدل على أنه لم يستدل على ذلك بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك أن عبد الله يخالفه ويجوِّز الاعتكاف في كل مسجد، ولو كان ثم حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما خالفه ابن مسعود.

وأيضاً في متن الحديث اختلاف وشك، فقد جاء عن ابن عيينة عن جامع عن شقيق قال: قال حذيفة لـ عبد الله بن مسعود: (قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، أو قال: مسجد جماعة)، فهذا اختلاف في لفظ الرواية نفسها.

ورواه الطبراني بسند صحيح -كما قال الحافظ في (الدراية) - عن النخعي، وفيه: قال حذيفة: (أما أنا فقد علمت أنه لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة).

وأعله الهيثمي والحافظ ابن حجر بالانقطاع.

فهذا الاختلاف مما يوهن الاستدلال بالحديث؛ لأنه جمع أصلين مختلفين في مسألة واحدة، فمرة يقول: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)، ومرة أخرى جاء في الرواية: (لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة) فهذا مما يقدح في الاستدلال بهذا الحديث.

يقول ابن حزم رحمه الله تعالى: قلنا: هذا شك من حذيفة، أو هو ممن دونه، ولا يقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشك، ولو أنه عليه السلام قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) لحفظه الله تعالى علينا ولم يدخل فيه شك، فصح يقيناً أنه عليه السلام لم يقله قط.

وقال الشوكاني في النيل: وأيضاً الشك الواقع في الحديث مما يضعف الاحتجاج بأحد شقيه.

وهناك جواب رابع عن الحديث قالوا: إن الحديث منسوخ، قال الطحاوي في (مشكل الآثار): فتأملنا هذا الحديث فوجدنا فيه إخبار حذيفة لـ ابن مسعود أنه قد علم ما ذكره له النبي عليه الصلاة والسلام، وترك ابن مسعود إنكار ذلك وجوابه إياه بما أجابه في ذلك من قوله: حفظوا وأصابوا.

أي: قد نسخ ما قد ذكرته من ذلك، فمن خالفه من الصحابة حفظوا أن هذا نسخ ونسيت، وأصابوا فيما قد فعلوه وأنت أخطأت، وكان ظاهر القرآن على ذلك؛ لأن ظاهر القرآن في قوله تعالى: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) يعمم، فعم المساجد كلها بذلك، وكان المسلمون عليه في مساجدهم الجامعة، فلازال المسلمون في كل الأعصار يعتكفون في مساجدهم.

الجواب الخامس: أن الحديث -إن صح- محمول على بيان الأفضلية، أي: لا اعتكاف أكمل ولا أفضل من الاعتكاف في المساجد الثلاثة، فهذا أكمل الأحوال بلا شك، وأكملها على الإطلاق في المسجد الحرام، يليه المسجد النبوي، يليه المسجد الأقصى.

قال الكاساني في (البدائع): فأفضل الاعتكاف أن يكون في المسجد الحرام، ثم مسجد المدينة، ثم في المسجد الأقصى، ثم في المساجد العظام التي كثر أهلها.

والجواب السادس: أنه لوثبت رفع الحديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام لما أجمعت الأمة على ترك العمل به، فلم يذكر عن أحد من الأئمة المتقدمين منهم والمتأخرين أنه أخذ بظاهر هذا الحديث سوى راويه حذيفة رضي الله عنه.

فإن قيل: قد أخذ به سعيد بن المسيب وعطاء، ف

صلى الله عليه وسلم أن النقل عن سعيد قد اختلف كما تقدم، وأما عطاء فلم يقل بهذا، وإنما قال: لا اعتكاف إلا في المسجد النبوي، أو المسجد الحرام.

ولم يذكر المسجد الأقصى، ولو أخذ بالحديث- أي: حديث حذيفة - لذكر المسجد الأقصى؛ لأنه مذكور فيه.

فعلم أن فتواه إنما هي اجتهاد منه، فقد روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت: لـ عطاء: فمسجد إيلياء- وهو المسجد الأقصى-.

قال: لا يجاور إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة.

فعلم تفرد حذيفة بذلك.

ولعله قد تحرر لك من عرض الأقوال وتمحيصها أن القول الأحرى بالقبول هو أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد جماعة، وإن كان الاعتكاف تتخلله صلاة الجمعة فالأولى أن يكون في مسجد جامع، خروجاً من خلاف الإمامين مالك والشافعي رحمهما الله تعالى.

وهنا زيادة ذكرها الشيخ سلمان العودة حفظه الله أيضاً في هذا الموضوع، فقد قال: إن الحديث -على القول بصحته- مؤول.

يعني أنّ حديث حذيفة إذا قلنا بصحته فينبغي تأويله، أي: لا اعتكاف كامل إلا في المساجد الثلاثة.

لكنه يجيب هنا بجواب آخر فيقول: قد يكون المراد من هذا الحديث (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) أن يعتكف في مسجد يحتاج إلى سفر للوصول إليه.

يعني: لو أنّ شخصاً نذر أن يعتكف في مسجد لا بد في التوصل إليه من السفر فإنه لا يسافر، إلا أن يكون نذر الاعتكاف في شيء من المساجد الثلاثة.

فلو نذر أحد أن يعتكف مثلاً في مسجد (جواثا) -وهو أول مسجد صليت فيه الجمعة خارج المدينة المنورة، ولا يزال معروفاً في الأحساء اليوم- لو نذر أن يعتكف فيه فإنه لا يجوز له أن يشد الرحل إليه ليعتكف فيه، ولكن يعوض ذلك بأن يعتكف في أحد مساجد بلده، أو إذا كان لا بد من سفر فيسافر إلى أحد المساجد الثلاثة ويعتكف فيه.

يقول: وإذا نذر المرء أن يعتكف في المسجد الحرام فيجب عليه الوفاء بنذره، فيعتكف في المسجد الحرام، أما لو نذر أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- فإنه يجوز له أن يعتكف في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أو في المسجد الحرام؛ لأن المسجد الحرام أفضل من المسجد النبوي، ولو نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى جاز له أن يعتكف في المسجد الأقصى، أو المسجد الحرام، أو المسجد النبوي؛ لأنهما أفضل من المسجد الأقصى.

يقول: فالخلاصة أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) لا اعتكاف بنذر يسافر إليه؛ لأن الاعتكاف يصح في كل مسجد، وقد أجمع الأئمة -خاصة الأئمة الأربعة- على صحة الاعتكاف في كل مسجد جامع، ولم يقل بعدم صحة الاعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أحد من الأئمة المعروفين المتبوعين، لا الأربعة، ولا العشرة، ولا غيرهم، وإنما نقل هذا عن حذيفة رضي الله تعالى عنه، وواحد أو اثنين من السلف.

هذا ما يتعلق بجواب هذا السؤال الذي يكثر الكلام فيه جداً في رمضان، ومع احترامنا للعلامة الجليل الألباني الذي ذهب إلى هذا المذهب إلاّ أنه ينبغي علينا في طلبنا للعلم وبحثنا أن نحافظ على الارتباط بقافلة علماء المسلمين ولا نشذ عنها، ولا نلعب بغرائب المسائل، وحتى لو اجتهد من اجتهد من الأئمة الفضلاء والعلماء الأجلاء فلا يشذ عن القافلة العامة لعلماء المسلمين منذ الصدر الأول إلى يومنا هذا، فينبغي أن نجتنب المسائل الشاذة والغريبة والأقوال المهجورة.

فهذا -والله تعالى أعلم- الجواب عن هذا الحديث الذي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015