ثم يختم المؤلف النصيحة ببعض الأخبار عن الصحابة والتابعين والسلف الصالح رحمهم الله تعالى فيقول: (قدم سعد بن أبي وقاص على سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهما يعوده، فبكى سلمان، فقال له سعد: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟! توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض، وترد عليه الحوض، وتلقى أصحابك.
فقال: ما أبكي جزعاً من الموت، ولا حرصاً على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهداً فقال: ليكن بلغة أحدكم من الدنيا كزاد الراكب -يعني: كالمتاع الذي يصطحبه الراكب المسافر- وحولي هذه الأساودة.
قال: وإنما حوله إجانة وجفنة ومطهرة.
فقال سعد: اعهد إلينا.
فقال: يا سعد! اذكر الله عند همك إذا هممت، وعند يديك إذا قسمت، وعند حكمك إذا حكمت).
وقال مطرف: كأنّ القلوب ليست منا، وكأن الحديث يُعنى به غيرنا.
يعني أنّ حالنا عند سماع المواعظ: كأن قلوبنا التي في صدرونا ليست جزءاً من أبداننا بل هي كيان آخر مستقل بعيد لا يحس، وكأن الحديث يُعنى به غيرنا، أي: يخاطب به غيرنا ولسنا المخاطبين به.
وقال عمرو بن مرة: من طلب الآخرة أضر بالدنيا، ومن طلب الدنيا أضر بالآخرة، فأضروا بالفاني للباقي.
وقال شعيب بن حرب: من أراد الدنيا فليتهيأ للذل.
وقالت ابنة الربيع بن خثيم: يا أبتاه! مالي أرى الناس ينامون ولا تنام؟ فقال: إن جهنم لا تدعني أنام.
وكان منصور بن المعتمر يصلي على سطح بيته، فلما مات قال غلام لأمه: يا أماه! الجذع الذي كان على سطح آل فلان لست أراه! قالت: يا بني! ليس ذاك بجذع، ذاك منصور قد مات! فقد تعود الغلام أن يراه قائماً مثل الجذع من شدة إطالته للقيام وسكونه وعدم تحركه.
وهنا شيء مهم نستطيع أن نستنبطه من هذا الخبر، وهو أن السلف الصالح رحمهم الله تعالى كانوا يحققون فعلاً نصيحة النبي عليه الصلاة والسلام: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، فقد مكث منصور تلك السنوات الطويلة وهو يقف على السطح يصلي، ويراه هذا الغلام كأنه جذع، فلا الغلام سأل، ولا أمه تكلمت في شأنه فمعنى ذلك أنه لم يكن هناك تدخل في أحوال الناس، ولم يكن أحدهم يتدخل فيما لا يعنيه، فلم يسأل هذا الغلام أمه إلا حين انقطع وجود ذلك الجسم الذي ظنه جذعاً، فأجابته أمه حينئذ، فهذا مما يدل على اجتهاد السلف في عدم الدخول فيما لا يعنيهم، بينما نرى أبناء هذا الزمان يدخل الواحد منهم في كل ما لا يعنيه من أحوال إخوانه أو جيرانه، وهذا مما ينافي قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).
وقال سفيان الثوري: إني لأضع يدي على رأسي من الليل إذا سمعت صيحة فأقول: قد جاءنا العذاب.
وذلك من شدة خوفه أن يحل عذاب الله سبحانه وتعالى بالناس.
وكان بعض السلف إذا استيقظ في الصباح يتحسس أعضاءه مخافة أن يكون قد مُسخ! وقال آخر: كنت إذا وجدت من قلبي قسوة نظرت إلى وجه محمد بن واسع رحمه الله تعالى نظرة، وكنت إذا رأيت وجهه حسبت أن وجهه وجه ثكلى، يعني: وجه امرأة مات ابنها فهي حزينة شديدة الحزن عليه، وهذا من خوفه من الآخرة.
إنّا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل فاغنم لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنما الربح والخسران في العمل فالدنيا تجري بنا بسرعة أكبر مما نتخيل، والعمر يجري ولا يشعر الإنسان به، فينبغي أن يتفطن الإنسان لهذا.
ومَثَل الإنسان في هذه الدنيا كالشخص الذي يكون في الطائرة وهو جالس ساكن، وهو في الحقيقة متحرك يقطع مسافات بعيدة جداً، فيوشك ذلك الإنسان أن يصل، فكل ما هو آت قريب، والبعيد هو الذي لا يأتي، وهذا يجربه الإنسان، فإنه إذا كان عنده موعد أو اختبار أو أي شيء بعد فترة معينة فما أسرع ما تمر الأيام، وإذا بذلك الموعد قد جاء، وكذلك الموت، وهو أعظم مصيبة، كما قال الشاعر: والموت أعظم حادث مما يمر على الجبلّة فينبغي الاستعداد والتهيؤ لهذا الموعد الذي لا يستطيع أحد أن ينكره.
يقول الحسن: نضحك ولعل الله اطلع على بعض أعمالنا فقال: لا أقبل منكم شيئاً.
أي: نضحك ونحن لا ندري هل الله سبحانه وتعالى راضٍ عنا أم ساخط علينا، ونفرح بالأفلام الكوميدية ونضحك ضحكاً متواصلاً لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات، وننظر البرامج الفكاهية والنكت والأفلام والمسرحيات والكرة ونضحك، وكأن ليس وراءنا موت، وكأن ليس وراءنا حساب ولا عذاب! وهناك أمر قضاه الله وقدره وأقسم وحلف عليه، فلا بد من أن يقع، فقد قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:71 - 72] ومعنى (نذَر) أي: نترك.
فمعنى ذلك أنهم كلهم يوردون على النار ثم يستقر أهل النار، وينجو المتقون، جعلنا الله وإياكم منهم.
قال الحسن قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار -يشير إلى الآية؟ - قال: نعم.
قال: فهل أتاك أنك صادر عنها -أي: هل عندك ضمان أنك ستخرج منها؟ - قال: لا، قال: ففيم الضحك؟ فبكى ولم ير ضاحكاً بعد ذلك حتى مات.
وقال محمد بن واسع رحمه الله تعالى: لو كان يوجد للذنوب ريح ما قدرتم أن تدنوا مني من نتن ريحي.
وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: واعجباً لمن يعلم أن الموت مصيره، والقبر مورده، كيف تقر بالدنيا عينه؟! وكيف يطيب فيها عيشه؟! وجاء محمد بن واسع إلى مالك بن دينار فقال: يا أبا يحيى! إن كنت من أهل الجنة فطوبى لك، فقال: ينبغي لنا إذا ذُكرت الجنة أن نخزى.
يعني: لسنا من أهلها، ولسنا نستحقها.
وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: لو استطعت ألا أنام لم أنم؛ مخافة أن ينزل العذاب وأنا نائم، ولو وجدت أعواناً لفرقتهم ينادون في الدنيا كلها: يا أيها الناس! النار النار.
ويقول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى: لو قيل لـ حماد بن سلمة: إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً.
أي أنه بلغ في الاجتهاد في طاعة الله سبحانه وتعالى حداً لا مزيد عليه، فما يضيع من وقته لحظة واحدة.
وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد! كيف حالك؟ فتبسم الحسن وقال: تسألني عن حالي؟ ما ظنك بناس ركبوا سفينة حتى توسطوا البحر فانكسرت سفينتهم، فتعلق كل إنسان منهم بخشبة، على أي حال يكونون؟! فقال الرجل: على حال شديدة.
قال الحسن: حالي أشد من حالهم.
وذلك خشية أن لا يكون من عباد الله المتقين الذين ينجون من عذاب النار.
وبهذا تنتهي هذه النصيحة من هذا الأخ الفاضل، وهي رسالة من غريق، وفي الحقيقة هي موجهة إلى كثير منا ممن يحتاج إلى هذه التذكرة عسى الله سبحانه وتعالى أن يهيئ لنا جميعاً توبة نصوحاً قبل أن يفوت الأوان.