يقول الدكتور علي العلواني حفظه الله: وهذه الأدلة المتكاثرة ترد ما ذهب إليه العلامة المحقق ناصر الدين الألباني حفظه الله في كتابه (التوسل أنواعه وأحكامه)؛ حيث قال: ولكن ثمة أمر يجب بيانه أو تبيانه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن أقر الصحابة في غزوة الحديبية وغيرها على التبرك بآثاره والتمسح بها، وذلك لغرض مهم، وخاصة في تلك المناسبة، وذلك الغرض هو إرهاب كفار قريش وإظهار مدى تعلق المسلمين بنبيهم وحبهم له، وتفانيهم في خدمته، وتعظيم شأنه، إلا أن الذي لا يجوز التغافل عنه ولا كتمانه هو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد تلك الغزوة رغب المسلمين بأسلوب حكيم وطريقة لطيفة عن هذا التبرك، وصرفهم عنه، وأرشدهم إلى أعمال صالحة خير لهم منه عند الله عز وجل وأجدى، وهذا ما يدل عليه الحديث الآتي.
وقبل أن نذكر الحديث نبين أنه اتضح أن جملة الأحاديث التي ذكرناها في التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم ليست كلها في غزوة الحديبية، فالشيخ -رحمه الله تعالى- هنا إنما تكلم على ما حصل في غزوة الحديبية أمام المشركين حتى يظهر لهم تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم، ويلق في قلوبهم الرعب، فإذا صح هذا في تلك الحادثة فماذا يكون الجواب عن الأدلة الأخرى التي لم تكن في غزوة الحديبية وأقر فيها النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على التبرك بآثاره صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول الشيخ ناصر حفظه الله: وهذا ما يدل عليه الحديث الآتي: عن عبد الرحمن بن أبي قراد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ يوماً، فجعل أصحابه يتمسحون بوضوئه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما يحملكم على هذا؟ قالوا: حب الله ورسوله) أي أن هذه من علامات المحبة، فكلما اشتدت المحبة تعلق الإنسان بآثار محبوبه، حتى إنه يهتم بأي شيء يحبه هذا المحبوب، كما قال الشاعر: ولقد أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا وفي أخبار العشاق أن عاشقاً عشق السراويلات من أجل سراويل معشوقه، فوجد في تركته اثنا عشر حلاً وفردة من السراويلات.
وعشق آخر الهاونات؛ من أجل صوت هاونة محبوبته، فوجد في تركته عدة آلات منها.
أما أهل حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيقول أحدهم: فيا ساكني أكناف طيبة كلكم إلى القلب من أجل الحبيب حبيب وهنا لما سألهم صلى الله عليه وسلم عما حملهم على التبرك به قالوا: (حب الله ورسوله) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يحب الله ورسوله أو يحبه الله ورسوله فليصدق حديثه إذا حدث، وليؤد أمانته إذا اؤتمن، وليحسن جوار من جاور).
فانظر إلى هذا الحديث العظيم.
وعلق الشيخ -رحمه الله تعالى- على هذا في الهامش بقوله: وهو حديث ثابت له طرق وشواهد في معجمي الطبراني وغيرهما، وقد أشار المنذري في الترغيب إلى تحسينه، يقول الشيخ: وقد خرجته في الصحيحة برقم (2998).
انتهى هنا كلام الشيخ ناصر.
والدكتور علي بعدما ذكر هذه الأدلة قال: إن هذه الأدلة ترد ما ذهب إليه العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله.
أي: ترد القول بتخصيص ذلك بالحديبية، وأنه ندبهم إلى ما هو أفضل من ذلك وأجدى لهم عند الله، وأن يشتغلوا بهذه الأعمال الصالحة.
يقول: وترد -يعني هذه الأدلة- أيضاً ما ذكره الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في حاشيته في كتاب (الاعتصام) حيث قال: ولم يعرف من الأحوال التي تبركوا فيها بفضل وضوئه صلى الله عليه وسلم وبصاقه إلا يوم الحديبية.
هذا غير صحيح، فالأدلة -كما ترى- ليست محصورة في صلح الحديبية، لكنها أعم من ذلك، كما ذكرنا.
يقول الدكتور علي حفظه الله: وذلك لأن تبرك الصحابة رضي الله عنهم كما تقدم لم يختص بغزوة -يعني غزوة الحديبية-، ولم يعرف عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم إنكاره، ولكن الذي أعجبني هو ما أشار إليه العلامة الألباني بقوله: هذا ولابد من الإشارة إلى أننا نؤمن بجواز التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم ولا ننكره؛ خلافاً لما يوهمه صنيع خصومنا، ولكن لهذا التبرك شروط، منها: الإيمان الشرعي المقبول عند الله، فمن لم يكن مسلماً صادق الإسلام فلن يحقق الله له أي خير بسبب تبركه هذا.
كما يشترط للراغب في التبرك أن يكون حاصلاً على أثر من آثاره صلى الله عليه وسلم ويستعمله، ونحن نعلم أن آثاره صلى الله عليه وآله وسلم من ثياب أو شعر أو فضلات قد فقدت، وليس لأحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين، وإذا كان الأمر كذلك فإن التبرك بهذه الآثار يصبح أمراً غير ذي موضوع في زماننا هذا، فيكون أمراً نظرياً محضاً، فلا ينبغي إطالة القول فيه.
انتهى كلام الشيخ ناصر الدين الألباني.
يقول الدكتور علي: إنما ذكرت الأدلة على التبرك بذاته وآثاره صلى الله عليه وآله وسلم لتتضح الصورة الكاملة للتبرك الذي كان الصحابة يخصون به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يفعلونه مع أحد سواه، فالصحابة كانوا يتبركون فقط بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يفعلون ذلك مع أحد سواه، كما سيأتي -إن شاء الله- فيما بعد في باب التبرك الممنوع.
فهذا ما تيسر من ذكر النوع الأول من أنواع التبرك المشروع، وهو التبرك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ذاته وآثاره، ونكمل البحث -إن شاء الله- في الدرس القادم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.