التبرك بالأشياء يكون غالباً بما كان سبب البركة فيه، وليس من الأسباب المعهودة للناس، من أجل ذلك كان يحرص الصحابة رضي الله عنهم على هذا كثيراً، فعندما أدخل الرسول صلى الله عليه وسلم يده في الإناء ثم قال: (حي على الطهور المبارك!) و (البركة من الله) وكان الماء ينبع من بين أصابعه جعل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يبادر الصحابة إلى الماء ويدخله في جوفه ويكثر من شربه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والبركة من الله).
وكذلك فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قصة رواها البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: (إن أصحاب الصفة كانوا ناساً فقراء، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث) يعني: من كان عنده طعام اثنين -كما لو كان هو وزوجته- فإنه يأخذ معه ثالثاً من أهل الصفة، قال (ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس -أو كما قال- وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة، قال: فهو أنا وأبي وأمي -ولا أدري هل قال: وامرأتي- وخادم بين بيتنا وبين بيت أبي بكر) يعني أنها كانت تخدم بيت عبد الرحمن وبيت أبي بكر، وهذا معنى قوله: (خادم بين بيتنا وبين بيت أبي بكر).
ثم إنَّ أبا بكر أخذ هؤلاء الضيوف وذهب بهم إلى البيت، ووكل ابنه عبد الرحمن أن يتولى قراهم وإطعامهم، فبعدما ذهب بهم أبو بكر إلى البيت رجع هو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتعشى أبو بكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لبث حتى صلى العشاء، وكان النبي عليه السلام يحب تأخير صلاة العشاء، قال: (فلبث حتى تعشى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله، فقالت له امرأته - أم رومان -: ما حبسك عن أضيافك -أي: ما الذي أخرك على الضيوف-؟! قال: أو ما عشيتيهم؟! قالت: أبوا حتى تجيء.
أي: رفضوا أن يأكلوا حتى تحضر وتجيء، فأهل بيت أبي بكر رضي الله عنه عرضوا على الضيوف العشاء فرفضوا أن يأكلوا، وغلبوهم وأصروا.
قال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: (فذهبت فاختبأت).
وذلك خوفاً من عقوبة أبيه، أو أن يوبخه ويعنفه؛ إذ كيف يترك الأضياف إلى ذلك الوقت ولا يطعمهم، فخشي أن يتهمه بالتقصير في قراهم.
قال: فذهبت فاختبأت، فقال: (يا غنثر) والغنثر هو: السقيم الوخم، وقيل: الجاهل والسفيه واللئيم.
فقال لابنه يعاتبه: (يا غنثر.
فجدع وسب) أي: دعا عليه بقطع أنفه أو غير ذلك، فاشتد على ابنه لهذا، ثم قال لأضيافه: (كلوا).
وقال: (لا أطعمه أبداً) فحلف أبو بكر على أنه لا يأكل من هذا الطعام أبداً؛ لأنهم تأخروا بسببه هو حتى يعود.
ثم قال: (وايم الله ما كنا نأخذ من اللقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها).
أي: كلما بدأ الضيوف يأكلون اللقمة يخرج من أسفلها أكثر منها ببركة الله تبارك وتعالى، فبارك الله في هذا الطعام، وكلما أخذ الضيوف لقمة يرون بعينهم زيادتها.
يقول عبد الرحمن -وهو الجاني هنا-: وايم الله ما كنا نأخذ من اللقمة إلا ربا من أسفلها -يعني: كبر ونما وطلع من أسفلها- أكثر منها، حتى شبعوا -أي: شبع الضيوف-، وصارت أكثر مما كانت قبل) أي: صارت مزيدة ومباركة أكثر مما كانت قبل أن يأكلوا فنظر أبو بكر رضي الله عنه وتعجب؛ لأن هذه كرامة.
قال: (فنظر أبو بكر وتعجب مما حصل في هذا الطعام، فقال لامرأته: يا أخت بني فراس! ما هذا؟ فقالت: لا وقرة عيني، لهي الآن أكثر مما قبل بثلاث مرار.
فأكل منها أبو بكر، وحنث في يمينه -أي: لأجل أن ينال بركة هذا الطعام المبارك- وقال: إنما كان من الشيطان -يعني: يمينه-.
ثم حملها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصبحت عنده.
قال: (كان بيننا وبين قوم عهد، فمضى الأجل ففرقنا اثني عشر رجلاً، مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل).
يعني أنهم كانوا أثني عشر رجلاً، ومع كل واحد منهم عدد كبير، قال: (فأكلوا منها أجمعون) أو كما قال.
ولن نطيل في شرح الحديث، لكن موضع الشاهد فيه هو هذه البركة التي أنزلها الله عز وجل في طعام أبي بكر كرامة لـ أبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه.
والشاهد هنا أيضاً: أن أبا بكر مع أنه كان حلف أن لا يأكل منها لما رأى هذه البركة حلت فيها حرص على أن يأكل منها؛ لأن البركة في الغالب تكون بأسباب غير الأسباب العادية، لذلك الصحابة كانوا إذا حصل شيء من هذا بادروا إليه.
فالتبرك هو طلب البركة، أي: طلب الزيادة في الخير والأجر، وكل ما يحتاجه العبد في دينه ودنياه بسبب ذات مباركة أو زمان مبارك، وتكون هذه البركة قد ثبتت بوجود ذلك السبب ثبوتاً شرعياً، وتنال البركة منه بالكيفية التي شرعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.