إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد أخرج الإمام البخاري رحمه الله بسنده عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله -أي: ابن مسعود - رضي الله عنه قال: (كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفاً، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء، فقال: اطلبوا فضلة من ماء.
فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: حي على الطهور المبارك، والبركة من الله.
فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل).
فقوله رضي الله عنه: (كنا نعد الآيات بركة) يعني: كنا نعد الأمور الخارقات للعادات بركة (وأنتم تعدونها تخويفاً) أي أنه ينكر على من يسمعونه أو من كان يحدثهم أنهم كانوا يعدون جميع الخوارق تخويفاً.
فقوله: (كنا نعد الآيات بركة) المقصود به: كنا نعد بعض الآيات بركة.
وقوله: (وأنتم تعدونها تخويفاً) أي: وأنتم تعدونها كلها تخويفاً، فليست كلها تخويفاً، وليست كلها بركة، بل بعضها يكون تخويفاً، كما قال عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]، وبعضها يكون بركة، كما في هذا الحديث المبارك.
يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: إن التحقيق يقتضي عد بعضها بركة من الله، كشبع الخلق الكثير من الطعام القليل، وبعضها تخويفاً من الله، ككسوف الشمس والقمر، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوفاً الله بهما عباده)، فكأن القوم الذين خاطبهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بذلك تمسكوا بظاهر قول الله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59].
ثم قال رضي الله عنه: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر)، وهذا السفر يشبه أن يكون في غزوة الحديبية؛ لأن ثبوت نبع الماء كان في هذه الغزوة، كما جاء في بعض الأحاديث، وقد وقع مثل ذلك في غزوة تبوك، وقيل: إنه كان في غزوة خيبر.
وفي بعض روايات الحديث: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، فأصاب الناس عطش شديد، فقال يا عبد الله! التمس لي ماءً.
فأتيته بفضل ماء في إداوة) إلى آخر الحديث.
وقد تكرر وقوع ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم حضراً وسفراً.
قوله: (قال: اطلبوا فضلة من ماء.
فجاءوا بإناء فيه ماء قليل) جاء من طريق ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً بماء، فطلبه، فلم يجده، فأتاه بشن فيه إناء) وفي آخره: (فجعل ابن مسعود يشرب ويكثر) لأنه كان ماءً مباركاً، فجعل يشرب ويكثر، فكأن ابن عباس حمله عن ابن مسعود، وكأن القصة واحدة.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤتى بفضلة من ماء، ولا شك في أن الله تبارك وتعالى قادر على أن يخلق له الماء بدون هذه الفضلة، فالله على كل شيء قدير، لكن أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبين لهم أن هذا الماء القليل يبارك الله تبارك وتعالى فيه بإذنه فيزيده ويكثره، ويكون الماء ينبع من أصابعه صلى الله عليه وسلم، حتى لا يتوهم متوهم أن البركة إنما هي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما البركة من الله، كما جاء في نص الحديث: (البركة من الله)، لكنه طلب شيئاً قليلاً من الماء حتى يبين ابتداء أن خلقة هذا الماء من الله، والبركة -أيضاً- من الله، حتى لا يقع التباس عند بعض الناس في هذا الأمر، ولذا قال لهم: (حي على الطهور المبارك) ومعنى (حي) أي: هلموا وأقبلوا (إلى الطهور) المراد به هنا الماء، ويجوز أن نقول: الطُهور بالضم، والمقصود الفعل، أي: تطهروا.
وقوله: (والبركة من الله) البركة مبتدأ و (من الله) خبر وهي إشارة إلى أن الإيجاد والخلق من الله تبارك وتعالى.
وفي بعض الروايات قال ابن مسعود: (فجعلت أبادرهم إلى الماء) أي: لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والبركة من الله) علم أن هذا الماء ماء مبارك، فجعل يسابق الصحابة رضي الله عنهم إلى الماء، يقول: (فجعلت أبادرهم إلى الماء أدخله في جوفي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: والبركة من الله)، وفي حديث ابن عباس: (فبسط صلى الله عليه وسلم كفه فيه فنبعت تحت يده عين، فجعل ابن مسعود يشرب ويكثر).
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: والحكمة في طلبه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المواطن فضلة الماء لئلا يظن أنه الموجد للماء، ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن الله أجرى العادة في الدنيا غالباً بالتوالد، وأن بعض الأشياء يقع بينها التوالد، وبعضها لا يقع، ومن جملة ذلك ما نشاهده من فوران بعض المائعات إذا خمرت وتركت زماناً، ولم تجر العادة في ماء الصرف بذلك، فكانت المعجزة بذلك ظاهرة جداً.
قوله: (ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل) أي: في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ففي الغالب أن هذا كان في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وله شاهد من طريق قيس بن أبي حازم قال: كان أبو الدرداء وسلمان إذا كتب أحدهما إلى الآخر قال له: (بآية الصحفة).
كما نقول نحن: بأمارة كذا إذا كان الاثنان متفقين على شيء ولا يعلمه ذلك الرسول الذي يمشي بينهما.
فكان أحدهما يقول للآخر: أعط فلاناً كذا وكذا بآية -يعني: بعلامة أو بأمارة- الصحفة.
قال: (كان أبو الدرداء وسلمان إذا كتب أحدهما إلى الآخر قال له: بآية الصحفة، وذلك أنه بينا هما يأكلان في صحفة إذ سبحت).
وجاء في الحديث: (مرض النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل بطبق فيه عنب ورطب، فأكل منه فسبح) يعني الطبق.
قال الحافظ ابن حجر: وقد اشتهر تسبيح الحصى، ففي حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: (تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع حصيات فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنيناً، ثم وضعهن في يد أبي بكر رضي الله عنه فسبحن، ثم وضعهن في يد عمر فسبحن، ثم وضعهن في يد عثمان فسبحن) وفي بعض الروايات: (فسمع تسبيحهن من في الحلقة) وفيه: (ثم دفعهن إلينا فلم يسبحن)، فهذه من الأشياء التي سبقت فيها بركة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.