اهتم السلف أعظم الاهتمام بصلاة الجماعة، سواء في ذلك في الحضر أو السفر، في العسر أو اليسر، في المنشط أو المكره، مع أن الله سبحانه وتعالى عذر المرضى، كما جاء في الحديث: (خوف أو مرض) هذا هو عذر التخلف عن صلاة الجماعة، ومع أن الأبدان قد عذرت ولكن القلوب لم تطق أن تحرم نفسها من صلاة الجماعة.
فنجد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول: (ولقد رأيتنا يجاء بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) يعني أن الرجل المريض كان يحمل من بيته حملاً على رجلين، ويسند إلى أن يقام في الصف لشدة حرصه على صلاة الجماعة، مع أنه مريض ومعذور؛ لأن قلبه لم يطق ولا يتحمل أن يتخلف عن صلاة الجماعة.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه وهو يصف الرعيل الأول من الصحابة رضي الله تعالى عنهم: (لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض، وإن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة) أخرجه مسلم.
ويقول الفقيه الكوفي إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: كان الأسود بن يزيد إذا فاتته الجماعة في مسجد قومه، علق النعلين بيديه وتتبع المساجد حتى يصيب جماعة.
لأن السنة للإنسان أن يصلي في مسجد قومه ولا يتتبع المساجد البعيدة، لما فيه من سلبيات كثيرة، منها -مثلاً- أن الإمام قد يظن أنك تفسقه أو تكفره أو تبدعه، فكونك تتجاوز المسجد إلى مسجد آخر بدون عذر شرعي فهذا مما يذم.
فـ الأسود بن يزيد -وكان من الصالحين رحمه الله تعالى- كان إذا فاتته الجماعة في مسجد قومه علق النعلين بيديه؛ لأنه إذا مشى حافي القدمين فهذا يكون أسرع له، ثم يظل يتتبع المساجد ويبحث عن مسجد لم تصل فيه الجماعة بعد حتى يدرك الجماعة.
وقال بعض السلف: من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة.
يعني: حظي بنصيب وافر جداً من الثواب العظيم والجزيل.
ويقول الحافظ الجهبذ شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه الحافل (سير أعلام النبلاء) وهو يترجم للإمام الرباني أبي الحارث عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي المدني قال: قال مصعب: سمع عامر المؤذن وهو يجود بنفسه -وهو يحتضر- فقال: خذوا بيدي، أسندوني حتى أذهب إلى المسجد وأصلي في الجماعة.
فقيل: إنك عليل -أي مريض-! قال: أسمع داعي الله فلا أجيبه! فأخذوا بيده فدخل مع الإمام في المغرب، فركع ركعة ثم مات رحمه الله تعالى.
يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: ولكن المحروم من حرم صلاة الجماعة؛ فإن صلاة يكون أجرها أجر سبع وعشرين صلاة لا يعدل عنها إلى صلاة ثوابها ثواب جزء من سبعة وعشرين جزءاً منها إلا مغبون.
فلو أن أحداً يبيع سلعة يكسب فيها جنيهاً واحداً، ونفس السلعة يمكن أن يبيعها في مكان آخر ينتقل إليه بسبعة وعشرين فلا شك أن التاجر الذي يضحي بمثل هذا المكسب الوفير لأجل انتقال يسير جداً من محله إلى مكان قريب لا شك أنه مغبون، وإنسان خاسر بكل المقاييس، فما بالك بمن يفوت سبعة وعشرين ضعفاً من الصلاة ويصلي في بيته ويضحي بهذا الأجر العظيم.
لذلك كان بعض السلف إذا تخلف عن الجماعة تكون بالنسبة له مصيبة كبيرة، ويأتي إخوانه من أهل المسجد يعزونه في هذه المصيبة، ويبدو أنه بعد ذلك حصل تراخٍ في هذا الأمر، حتى إن بعض السلف أنكر على أصحابه حينما قال: لو مات لي ولد فعزاني لعزاني عشرة آلاف إنسان، وفاتتني تكبيرة الإحرام فلم يعزني أحد.
فهو يستدل بذلك على أنهم ليسوا فقهاء، وليسوا معظمين لأمر الله سبحانه وتعالى.
يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: ولكن المحروم من حرم صلاة الجماعة؛ فإن صلاة يكون أجرها أجر سبع وعشرين صلاة لا يعدل عنها إلى صلاة ثوابها ثواب جزء من سبعة وعشرين جزءاً منها إلا مغبون، ولو رضي لنفسه في المعاملات الدنيوية بمثل هذا لكان مستحقاً لحجره عن التصرف في ماله.
فلو أن تاجراً ضحى في تجارته بمثل هذا الربح لاعتبر سفيهاً؛ لأنه يضيع سبعةً وعشرين ضعفاً من سعر السلعة! فإن أعطي المال ليتاجر به لقال له المالك: أنت سفيه لا تصلح، كيف تفوت علي سبعة وعشرين ضعفاً من الربح؟! وربما يحجره عن التصرف في ماله.
يقول: ولو رضي لنفسه في المعاملات الدنيوية بمثل هذا لكان مستحقاً لحجره عن التصرف في ماله لبلوغه من السفه إلى هذه الغاية، والتوفيق بيد الرب سبحانه وتعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، فهذه من السفاهة، فما بالك بمن يفوت سبعاً وعشرين درجة من درجات الآخرة؟!