حديث: (ما جلس قوم يذكرون الله إلا ناداهم منادٍ من السماء)

الحمد لله الذي جعل ذكره عدة للمتقين، يتوصلون بها إلى خيري الدنيا والدين، وجنة واقية للمؤمنين سهام الشياطين، وشر إخوانهم المتمردين من طوائف الخلق أجمعين، وصلى الله على خير البشر الذي أنزل عليه: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45].

فبين للعباد من فضائل الأذكار، وما فيها من المنافع الكبار، والفوائد ذوات الأخطار ما ملأ الأسفار، وعلى من صاحبه ووالاه وسلم تسليماً كثيراً لا يدرك منتهاه.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد: فعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل إلا ناداهم منادٍ من السماء: قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات)، هذا الحديث رواه الطبراني في معجمه الأوسط، والإمام أحمد في مسنده، وأبو يعلى، والبزار، وحسنه الألباني.

قوله صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل) قوله عليه الصلاة والسلام: (يذكرون الله) لا ينحصر في وظيفة معينة من الوظائف المشهورة بأنها هي ذكر الله سبحانه وتعالى، فلا شك أنه يدخل في ذكر الله التسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، والحوقلة، وقراءة القرآن، والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وغير ذلك، والأذكار لا تنحصر في هذا، بل كل عامل لله بطاعة لله فهو ذاكر لله عز وجل، كما قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى، وقال عطاء: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام.

أي: كيف تشتري وتبيع، وتصلي وتصوم، وتنكح وتطلق، وتحج، وأشباه هذا، فأشرف مجالس الذكر على الإطلاق هي مجالس العلم التي فيها يتعلم الإنسان علوم الحلال والحرام، وكيف يراعي حدود الله تبارك وتعالى.

ويقول الحسن: ما من شيء مما خلق الله أعظم عند الله في عظيم الثواب من طلب العلم فلا حج ولا عمرة، ولا جهاد، ولا صدقة ولا عتق، قال: ولو كان العلم صورة لكانت صورته أحسن من صورة الشمس.

وقال يحيى بن أبي كثير: درس الفقه صلاة.

وكان أبو السوار العدوي في حلقة يتذاكرون العلم ومعهم فتى شاب، قال لهم هذا الشاب: قولوا سبحان الله والحمد لله.

فغضب الشيخ أبو السوار وقال: ويحك في أي شيء كنا إذاً؟ فالعلم أفضل من مجرد الذكر، كما هو معلوم من تفضيل طلب العلم على صلاة النافلة، فيقدم طلب العلم على صلاة النافلة.

فمعرفة الحلال والحرام واجب في الجملة على كل مسلم، أما ذكر الله سبحانه وتعالى باللسان فأكثره يكون تطوعاً، لكن العلم والفقه يعلمك كيف تجتنب الحرام، وكيف تؤدي الواجبات، وما هي شروطها، وما هي المكروهات، وما هي المستحبات، فحدود الله تبارك وتعالى إنما تعلم عن طريق مجالس العلم، فلذلك مجالس العلم هي أفضل مجالس الذكر على الإطلاق، فهي حلق ذكر.

أما ما يرد إلى الأذهان حينما تقام حلقة ذكر -خاصة في الوسط الصوفي- فيها من الرقص والطبل والمزمار والقفز والصياح وهذه الأشياء التي يفعلونها فهذه ليست حلقة ذكر، بل حلقة غفلة وحلقة نسيان لله، وليس ذلك ذكراً لله سبحانه وتعالى، فهذا نسيان وإعراض عن الذكر الحقيقي الذي هو طلب العلم وقراءة القرآن وغير ذلك من الأذكار التي أشرنا إليها.

ويدل على هذا المعنى الذي قاله عطاء رحمه الله تعالى قوله تبارك وتعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37].

أما هذا الذكر الذي أحدثه بعض الصوفية ولزموه مع هجران العبادات اللازمة التي هي من حقوق الإسلام وحقوق الله سبحانه وتعالى وحقوق النفس، ثم ينظرون إلى أهل العلم في مجالس الدرس نظرة حقارة وازدراء فهذا ليس بذكر كما قلنا، بل هو نسيان لله سبحانه وتعالى، ونسيان لأمره ونهيه، فما أقبح هذا الذكر الصوفي! وما أحراه بتسميته النسيان والغفلة والإعراض عن الله تبارك وتعالى! وقد ثبتت جملة من الأحاديث في فضائل الذكر بعد جملة عظيمة من الآيات، كقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41 - 42].

قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: و {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41] قال: إن الله لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال عذر.

فكل عبادة لها وقت وحدود معينة، مثلاً: الصلاة في أوقات تباح، وفي أوقات تكره أو تحرم، وكذلك الصيام، فالفريضة وقتها في شهر رمضان، وصيام التطوع في أيام معينة منهي عنه، كأيام التشريق أو يوم العيد، فكل عبادة لها حدود ولها وقت، ولها ابتداء وانتهاء، ولها أحوال يعذر من تركها فيها.

أما ذكر الله سبحانه وتعالى -كما روى علي بن طلحة عن ابن عباس - فلم يجعل الله له حداً معلوماً، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهى إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله، يقول تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:103] أي: بكل أحوالكم في الليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال، وقال: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:42] فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته، فهذه هي العبادة الوحيدة التي أمرنا بالإكثار فيها بلا حدود في كل الأحوال، حتى كان صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الله على كل أحواله، طاهراً أم غير طاهر، جنباً أم غير جنب، نائماً أو قائماً أو قاعداً، في كل أحواله يذكر الله تبارك وتعالى.

ولذلك نلاحظ في القرآن الكريم الأمر بالإكثار من الذكر، قال تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41] وفي هذا الحديث الذي رواه أنس رضي الله تعالى عنه من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل إلا ناداهم مناد من السماء: قوموا مغفوراً لكم).

والذكر هنا أعم من أن يكون مخصوصاً بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والحوقلة وغير ذلك، فأي مجلس علم يتعلم فيه حدود الله سبحانه وتعالى فهو مجلس ذكر، ويستحق أهله هذا الفضل الذي ثبت في هذا الحديث: (إلا ناداهم مناد من السماء: قوموا مغفوراً لكم) يعني: إذا انتهى المجلس وقمتم بعد انتهائه فتقومون حال كونكم (مغفوراً لكم) فبعض العلماء يقولون: هي الصغائر.

وبعضهم يقولون: الصغائر والكبائر إذا كان مع حضور مجالس الذكر توبة صحيحة من الكبائر، يعني: لا يكون الرجل الذي ارتكب كبيرة مصراً عليها، فإذا تاب منها -أيضاً- يغفر له الكبائر والصغائر؛ لأن الكبائر لا بد لها من توبة خاصة، فذنب معين يرتكبه عليه أن ينوي أن يتوب منه، وبالتالي يغفر له الكبائر والصغائر.

وليس المراد من قوله: (قوموا مغفوراً لكم) أن هذا المنادي يناديهم ويقول لهم: قوموا واتركوا الذكر والقيام.

وإنما المراد حين يريدون الانصراف، وليس المقصود أن المنادي يناديهم آمراً لهم أن يتركوا مجلس الذكر ويقوموا عنه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015