السلف الصالح رحمهم الله تعالى كانوا يولون باب الأدب اهتماماً عظيماً، كما روي عنهم أنهم كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم، ولم يكونوا يقتصرون على تحصيل العلم النظري، وإنما أيضاً كانوا يمحضون نياتهم ويوجهونها نحو الاقتداء بالهدي وبالسمت الحسن.
ولذلك يقول إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وإلى صلاته وإلى حاله، ثم يأخذون عنه.
وقال ابن سيرين: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) فلابد أن يدقق الإنسان أولاً قبل أن يتلقى العلم، وأن ينظر في سمت وحال من يتلقى منه العلم.
وذلك هو ما فعله الإمام مالك رحمه الله تعالى، حيث يقول: رأيت أيوب السختياني بمكة حجتين فما كتبت عنه، ورأيته في الثالثة قاعداً في فناء زمزم، فكان إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم عنده يبكي حتى أرحمه، فلما رأيت ذلك كتبت عنه.
أي أنه كان رقيق القلب شديد التعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنه كان يسمع كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبكي، وليس بكاءً عادياً، وإنما كان يتمادى في البكاء، حتى إن من يجالسونه كانوا يرحمونه ويشفقون عليه لشدة تأثره وشوقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذاً ما كانوا يقتصرون على تلقي العلوم النظرية حتى يضموا إلى ذلك أدب النفس، ومن ثم يقول الفراء الحنبلي: أدب النفس ثم أدب الدرس.
وقال بعضهم لابنه: يا بني! لأن تتعلم باباً من الأدب أحب من أن تتعلم سبعين باباً من أبواب العلم.
وقال مخلد بن الحسين لـ ابن المبارك: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث.
وذكر البرهان البقاعي أنه سأله بعض العجم أن يقرأ عليه فأذن له، فجلس متربعاً، فامتنع من إقرائه وقال له: أنت أحوج إلى الأدب منك إلى العلم الذي جئت تطلبه.
أي: لأنه جلس أمامه متربعاً، ولم يجلس جلسة المتعلم التي وردت في حديث جبريل عليه السلام.
وعن الأمام أبي حازم الأعرج رحمه الله تعالى قال: لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيهاً أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا.
يعني: أقل ما نتعارف عليه من الأخلاق التواسي فيما بيننا.
أي: يعطي بعضهم بعضاً مما رزقه الله.
يقول: وما رأيت في مجلسه متماريين ولا متنازعين في حديث لا ينفعنا.
وفي الحقيقة هذا ليس في المقام الأول مدحاً لهؤلاء الطلبة، لكنه مدح لنهج شيخهم الذي رباهم على ذلك، ولذلك صدر الكلام بقوله: لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيهاً أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، وما رأيت في مجلسه متماريين -ما كانوا يعرفون الجدل والمراء- ولا متنازعين في حديث لا ينفعنا.
وقال خالد بن نزار: سمعت مالكاً يقول لفتى من قريش: تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم.
والأدب خير وسيلة لاستدرار علم الشيخ، فقد قال ابن جريج: لم أستخرج الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به.
فمن هنا لا نستبعد ونستغرب ما قاله بعض الشعراء: ليس اليتيم الذي قد مات والده إن اليتيم يتيم العلم والأدب فكأن العلم والأدب هما الأب والأم، وإذا فقدهما صار يتيماً.