إن ذلك التعبير الذي يعطينا ميزان المولاة أو ميزان الحب في الله يعطينا أيضاً من الجهة الأخرى ميزان البغض في الله، وميزان البراءة ممن حاد الله ورسوله، وهو التعبير المشهور (من فعل كذا فليس منا)، أو (ليس منا من فعل كذا) فهكذا نصب الشارع علامات يعرف بهذه العلامات كون المعصية كبيرة من كبائر الذنوب، ومن هذه العلامات التعبير عن هذا الفعل بأن صاحبه ليس منا، أي: ليس من أهل سنتنا، وليس على طريقتنا الإسلامية.
وذلك أن الله تعالى قال للمؤمنين: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وليس المراد بهذا التعبير الإخراج الحقيقي من الدين، وإنما المراد الزجر عن هذه المعاصي، كما في قوله: (ليس منا من تشبه بغيرنا) وقوله: (لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى)، وقوله: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا)، وذلك لأن سنة غيرنا منسوخة بشرعنا، وفي الجهة المقابلة يقول عليه الصلاة والسلام: (من تشبه بقوم فهو منهم)، أي: يصير منهم وليس منا.
ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) ويقول: (ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه من النساء بالرجال)، ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من تَطير أو تُطير له، أو تَكهن أو تُكهن له، أو تَسحر أو تُسحر له) ويقول أيضاً: (ليس منا من حلف بالأمانة) لأن الحلف بالأمانة حلف بغير الله، ويقول: (ومن خبب على امرئ زوجته أو مملوكه فليس منا) (خبب) يعني: أفسد.
ومنها قوله: (ليس منا سلق ومن حلق ومن خرق) (من سلق) أي: رفع صوته عند المصيبة بالبكاء (ومن حلق) أي: حلق شعره جزعاً على المصيبة (ومن خرق) أي: خرق ثوبه جزعاً على الميت.
ومنها -أيضاً- قوله صلى عليه وسلم: (ليس منا من غش)، وقوله: (من غشنا فليس منا).
ومنها: قوله: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)، (دعا بدعوى الجاهلية) كما تفعل المرأة النائحة حينما تقول: واكهفاه.
واجبلاه.
إلى غير ذلك من عبارات الجزع عند نزول المصيبة، أو أن المقصود بدعوى الجاهلية أنه كان من عادتهم في الجاهلية أن الرجل إذا غلب في الخصام نادى بأعلى صوته: يا آل فلان.
يا لبني فلان.
فيبادرون لنصرته ظالماً كان أو مظلوماً؛ لأنه استغاث بهم، فيفزعون إليه ماداموا من قبيلته ومن عنصره.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية) والمقصود بالعصبية هنا معاونة الظالم، فالشخص العصبي هو الذي يغضب لعصبيته، ويحامي عنها بقبيلته أو عائلته أو غير ذلك مما ينتمي إليه، فالرسول عليه السلام يبغض إلينا هذا الداء الوبيل، داء الحزبية الجاهلية، وداء العصبية ومناصرة الشخص بمجرد أنه من حزبك أو قبيلتك أو عائلتك، لا لكونه على حق أو غير ذلك، وهذا الفعل القبيح قد شاع وذاع، خاصة بين بعض الجماعات الإسلامية، والذي يعتبر جرم الجماعات الإسلامية هو الحزبية البغيضة الجاهلية؛ حيث إنها تجعل الإنسان لا يحترم هذه القواعد في الولاء والبراء، وإنما يوالي في الحزب، ويعادي في الحزب، وليس مولاة في الله ومعاداة في الله عز وجل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: بين بهذا الحديث أن تعصب الرجل لطائفة مطلقاً فعل أهل الجاهلية محذور مذموم، بخلاف منع الظالم وإعانة المظلوم من غير عدوان، فإنه حسن، بل واجب.
فلا منافاة بين هذا وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) وبين قوله: في نفس الحديث: (أن تحجزه عن الظلم، فذاك نصرك إياه).
ومن هذه الأحاديث أيضاً قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه)، كما لاحظنا في حديث جليبيب رضي الله تعالى عنه كيف أن هذه الجارية حينما استجابت وتأدبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفعها هذا الأدب، بحيث كانت رغم قتل زوجها رضي الله عنه أنفق أيم في المدينة كلها، وحظيت بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الخير كله، فهذه إحدى ثمرات التزام الأدب مع الشرع المطهر ومع صاحب الشرع، وانظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلي شأن الأدب، إلى حد أنه كان يستعمل هذا التعبير الذي فيه بيان تنافي طريقه مع طريق من يسيء الأدب، وأن من يسيء الأدب ليس من المسلمين، وليس على طريقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا قال: (ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه).