لقد مارس المسلمون السياسة في عهود الخلافة لمدة تقارب الثلاثة عشر قرناً، ابتداء من أروع أنموذج للخلافة الراشدة بعد النبي عليه الصلاة والسلام في عهد الخلفاء الراشدين، ثم في عهد بني أمية، ثم في عهد بني العباس، ثم في عهد بني أيوب، ثم في عهد بني عثمان, على تفاوت في درجة الالتزام بالشريعة كمرجعية إسلامية بصورة كاملة، ولا شك أن الأنموذج الأمثل للسياسة كان في عهد الخلفاء الراشدين، ثم بعد ذلك كانت المسألة نسبية، لكن بقي الإسلام هو الإطار المرجعي العام الذي يتحاكم إليه المسلمون بلا نقاش ولا خلاف أو انحراف بينهم في ذلك، حتى سقطت الخلافة العثمانية في سنة (1923م) , والخلافة كانت قد آلت إلى مراحل من الضعف نتيجة الانحراف عن الشريعة الإسلامية في فتراتها الأخيرة, التي ظهر فيها الانحلال والتدهور، فكانت مهيأة للسقوط, فما فعله أتاتورك هو أن الجدار كان آيلاً للسقوط فهو دفعه بيده فسقط ولو كان جداراً متيناً لما سقط بتلك السهولة، لكن كانت هناك أسباب أخرى للضعف انتهت بانهيار الخلافة العثمانية وغيابها، لكن كان المسلمون حتى في حالات الضعف يعزون أنفسهم بأن لهم خليفة ولهم بيعة في عنقه، ولهم كذا وكذا، لكن حتى هذا الوضع الشكلي الذي آلت إليه الخلافة العثمانية انتهى بإقصائها تماماً على يد أتاتورك وأعوانه.
وأول شؤم بعد سقوط الخلافة وضعف المسلمين في تلك المرحلة هو تقسيم الأمة الإسلامية إلى أقاليم جغرافية متعددة على أيدي أعداء الإسلام من الإنكليز والفرنسيين وغيرهم من أعداء الله سبحانه وتعالى؛ تطبيقاً لمبدئهم المعروف: فرق تسد, وكان الإنكليز وراء ما يسمى بالثورة العربية، وأشرفوا على عملية الانفصال بين الأتراك وبين العرب.
والأثر الثاني أن هذه الأقاليم خضع معظمها للاستعمار العسكري الكافر سواء انجلترا أو فرنسا أو إيطاليا أو هولندا أو روسيا، ثم حكمتها حكومات أقامها الاستعمار ممن يطيعه، مما نستطيع أن نسميه استعماراً وطنياً كما هو الحال الآن في العراق، حيث تنتقي الدولة المستعمرة أناساً يقومون هم بالتصدي لتنفيذ سياساتها وأغراضها، فهذا نوع من الاستعمار لكن بأيدي أناس من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.
ثم بعد ذلك شرع الكفار المستعمرون في استبدال القوانين الإسلامية والنظم الإسلامية بقوانين كافرة تنافي شريعة الإسلام، وهذه مرحلة الاستعمار التشريعي.
ثم بعد ذلك بدأ الزحف إلى مناهج التعليم فغيرت، ونشأت بسببها أجيال تعتنق المفاهيم الغربية وتعادي الإسلام ولا تعتز بالانتماء إلى الهوية الإسلامية، وهذا هو الاستعمار التعليمي والفكري.
لقد ألغيت الخلافة الإسلامية تماماً من الوجود, بل صدر في تركيا قانون يعتبر أن العمل لاسترداد الخلافة الإسلامية أو الدعوة إليها جريمة يعاقب عليها, حتى أن أربكان لما أراد أن يرشح نفسه للرئاسة أراد بعض الصحفيين أن يورطه في كلام يطبق عليه هذا القانون فبالتالي يقصى عن النشاط السياسي، فقال له: إذا وصلت إلى الحكم فكيف ستحكم تركيا؟ فاضطر أن يجيب إجابة تصور الخوف والوضع المتردي الذي وصل إليه المسلمون في تركيا, وأجاب إجابة ذكية ليهرب من هذا الفخ الذي نصبه له هذا الصحفي، وفي نفس الوقت يجيب بما يعتقده فقال: سوف أحكم تركيا بالنظام الذي كان يحكمها يوم أن كانت تسود العالم.
وكل هذا هروباً من كلمة النظام الإسلامي حتى لا يتهم بأنه يريد إعادة الخلافة! وبعد ذلك جاءت مرحلة نهب ثروات المسلمين واستغلالها وإذلال المسلمين, ثم أتت بعد ذلك مرحلة خروج الاستعمار من بلاد المسلمين، لكنه لم يغادر إلا بعد أن أرسى دعائم استمرار هذه الأنواع من الاستعمار، وترك خلفه واقعاً مغايراً للإسلام يصعب تغييره إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.