تعرض القرآن الكريم لموضوع الجن ممثلاً بالشيطان بصفة أساسية، وفي كيد بني آدم، وفي شياطين الإنس والجن، وفصل تفصيلاً مهماً جداً، هذا هو الذي ينبغي أن ننشغل به: عداوة الشيطان لبني آدم، وأن الشيطان يقف وراء كل شرك ومعصية، وأن جنوده يجتهدون في إضلال الناس وإفساد ما بينهم، فنحن مطالبون بمحاربة كيد الشيطان بالاستقامة على طاعة الله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ} [الأعراف:27]، هذا موضوع أساسي، لكنه ليس موضوعنا الآن: عداوة الشيطان، وكيف نواجه هذا العدو؟ وكيف نكون منه على حذر؟ وكيف لا نقع في المعاصي؟ هكذا فصل القرآن وحذر من تلبيس الشيطان، وإضلاله إيانا سواء في العقيدة أو العبادات أو الأخلاق، أو غير ذلك من المسالك، هذا هو الموضوع الذي فصل القرآن فيه تفصيلاً عجيباً جداً، وكذلك السنة.
أما حقائق عالم الجن، فقد عرض القرآن لها بالتفصيل في سورة الجن، ثم في سورة الأحقاف بصورة عابرة، وما عهدنا أبداً لا من الصحابة ولا من السلف الانغماس في موضوع الجن بهذه الطريقة المرضية الوبائية التي انتشرت وصرفت الناس عن الواقع الذي يعيشونه باعتبارهم من بني آدم إلى واقع من الخيال، وشيء غائب عنا، وأغلب المعلومات التي نتداولها ليست من مصدر الوحي ولكنها أخبار الجن، أو السحرة، أو ممن يزعمون أنهم قد تمرسوا وتدربوا في هذا المجال، لكن أين الخبر المعصوم الذي يجب ألا نتعداه؟ وتساهلنا كثيراً في أن نشرب كماً هائلاً من المعلومات دون أن نتمحص ونتحرى المنهج السلفي الذين نزعم أننا ننتمي إليه.
فمثلاً: إذا قلنا لأخ: نريد دليلاً معصوماً على أن الجني يحرق بالقرآن؟ قد يدهش لأن الخبر حقيقة مسلمة، لكن من أين لك هذا؟ من أين أتيتم أن القرآن الكريم يحرق الجن؟ لن يجدوا دليلاً، إنما يتمسكون بعمومات من القرآن الكريم بعيدة تماماً عن تأييد ما ذهبوا إليه، نحن نريد احترام المنهج العلمي في مثل هذه القضية، أين الدليل على هذه الأشياء؟ أين الدليل على هذا الضرب المبرح بهذه الطريقة؟ هل الشريعة التي حرمت العدوان الصول على بدن وروح المؤمن تبيح في نفس الوقت هذا العبث وهذا الانتهاك لحرمات المسلمين بالصورة التي نراها والتي قد تصل إلى القتل في كثير من الحالات؟ أين العقول؟ أين منهج السلف الذي نزعم أننا ننتسب إليه؟ إذاً: ولع الإنسان بمعرفة الغيوب كان المدخل الذي من خلاله راج هذا الموضوع؛ لأننا نسينا أننا لا نتلقى الأخبار إلا من الوحي المعصوم، وفتحنا نافذة جديدة غير نافذة الوحي أخبار تأتينا عن عالم المجهول، وهذا إن كان جنياً بالفعل فإننا لا نعرف من هو، ولا كيف هو، ونعيش في عالم من الوهم، ونصدق هذه الأشياء، وأن الجني يسلم، ثم بعد ذلك يُعرض عليه الإسلام، ويقال له: ما اسمك؟ يجيب بأن اسمه جرجر، ثم يُسأل: من الذي بعثك؟ فيجيب شنودة إلخ، ونفتح أبواب خيال في خيال.