إن ذلك الحديث الشريف الذي سبق ذكره وفيه: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) يؤكد أن الأصل في عقيدة الإنسان هو التوحيد، وأنه يولد مهيئاً للعقيدة الصحيحة في فاطره وخالقه سبحانه وتعالى، وأما الشرك فهو انحراف يطرأ على هذا الأصل فيفسد الفطرة، وذلك بتأثير البيئة المحيطة به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فأبواه يهودانه)، أي: يجعلانه يهودياً إذا كانا يهوديين.
قوله: (أو ينصرانه) أي: يجعلانه نصرانياً إن كانا نصرانيين.
وقوله: (أو يمجسانه) أي: يجعلانه مجوسياً إن كانا مجوسيين.
والشاهد من الحديث أن الضلال عن فطرة الإسلام ليس من المولود، بل هو من مؤثر خارجي، فإن بلغ الحلم وبقي منحرفاً عن دين الفطرة بقي معه ضلاله، وإذا أسلم وجهه لله عز وجل انتفى عنه وعاد إلى الفطرة الإسلامية.
لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً يؤكد معنى الحديث فقال: (كما تنتج البهمية) يعني: كما تلد البهيمة قوله: (بهيمة جمعاء) أي: تامة الأعضاء، وسميت جمعاء؛ لاجتماع أعضائها.
(فالمولود يولد على الفطرة مثل نتاج البهيمة، فإنها تولد سليمة الأعضاء مكتملة).
قوله: (هل تحسون فيها من جدعاء؟) أي: هل تبصرون فيها مقطوعة الأذن أو الأطراف أو الأنف، وإنما يطرأ عليها قطع الأعضاء بعد ولادتها سلمية.
فكذلك الأبوان الكافران يغيران فطرة ولدهما، ويزينان له العقيدة الباطلة.
وهذا الذي دل عليه الحديث النبوي الشريف قد دل عليه الحديث القدسي الذي رواه عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته حاكياً عن الله عز وجل أنه قال: وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت عليهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً).
فقوله تعالى في الحديث: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم) أي: جمع حنيف، وهو الذي يميل إلى الشيء ولا يرجع عنه، كالحنف في الرِّجْلِ وهو ميلها إلى خارجها، فلا يقدر الأحنف أن يرد حنفه، والمقصود بالحنيف هنا: الذي يميل عن الأديان إلى الإسلام، فهذا الحديث يدل على أن الأصل في الآدميين هو الفطرة والتوحيد، وأن الشرك عارض طارئ.
فهذا ما تيسر من الكلام في شرح قوله صلى الله عيله وآله وسلم: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟).
ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (اقرءوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] إلى آخر الآية، وهذا الحديث رواه الشيخان كما بينا.
وللحديث إن شاء الله شيء من البقية، فهناك حقائق أخرى من القرآن فيها الرد على هذه المزاعم فيما يتعلق بالتاريخ الحقيقي لدين الإسلام ولفطرة التوحيد.