إن موجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئاً فشيئاً بحسب كمال هذه الفطرة واستعدادها، وبحسب سلامتها من المعارض، فكل مولود يولد على الإقرار لفاطره ومحبته والإذعان له بالعبودية، فلو ترك بلا معارض ولا حجاب لم يعدل عن ذلك إلى غيره.
كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة، كما قال عز وجل: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى).
فهل هذا الطفل درس ميكانيكة عملية الرضاع؟! فنحن لو تأملنا في الميكانيكة التي يتم فيها عملية الرضاع لوجدنا هذا الطفل وكأنه درسها دراسة متقنة، فمن علمه؟! لقد علمه (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) وهذه هي الهداية العامة التي تكلمنا عليها في القضاء والقدر، وهي المرتبة الأولى من مراتب الهداية الأربع.
فهذه النملة، اعمل معها مرة عملية مطاردة، وحاول أن تقتلها فماذا ستفعل؟ إنّها تحاول أن تهرب، فمن الذي هداها إلى هذا؟ إنّها هداية الله سبحانه وتعالى.
ادرس مملكة النحل وما فيها من العجائب، من أين للنحل هذه العلوم كلها؟! إنّ هذه من آيات الله العظام، فهذه حشرة أو طائر بسيط، من الذي يلهمه البحث عما ينفعه، والحرص عليه، والاجتهاد في دفع ما يضره؟ إنّه الله سبحانه وتعالى الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
وكذلك الفيروسات والبكتيريا، من الذي يهديها إلى هذه الهدايات التي نعرفها؟ إنّه الله سبحانه وتعالى.
فكما أننا نعترف أن الطفل عنده أنواع معينة من الهدايات، يغرسها الله سبحانه وتعالى في نفسه ويفطره عليها، فكذلك فيما يتلقى بفطرة التوحيد، فهو سبحانه خلق الحيوان مهتدياً إلى حب ما ينفعه وجلْبهِ، وبغض ما يضره ودفْعِه، ثم هذا الحب والبغض يحصلان فيه شيئاً فشيئاً حسب حاجته، لكن قد يعرض لبعض الأبدان ما يُفسد ما خلق عليه من الطبيعة السليمة، والعادة المستقيمة.
وهكذا ما ولد عليه الإنسان من الفطرة، فقد يطرأ عليها ما يصيبها، ولهذا شبهت الفطرة باللبن، بل كانت نفسها هي اللبن، وذلك في تأويل ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم حين عُرض عليه ليلة الإسراء اللبن والخمر، فاختار اللبن، فقيل له: (أصبت الفطرة، أو هديت للفطرة).
فمناسبة اللبن لبدنه وصلاحه به دون غيره كمناسبة الفطرة لقلبه وصلاحه بها دون غيرها، فكما أن هذا الطفل الذي يولد غذاؤه الوحيد هو اللبن، وصلاح بدنه لا يكون إلا باللبن، ولو أتيت له بأفخم المطعومات وأغلاها وأثمنها كاللحوم وغيرها فإنها تضره، وقد تهلكه؛ لأن البدن في هذه المرحلة لا يستطيع تحمل ولا هضم هذه الأطعمة، فالشيء الوحيد الذي يصلح له هو هذا اللبن، فالفطرة بالنسبة لقلبك وصلاحه كاللبن بالنسبة لبدنك.
فلذلك ربط في الحديث بين الفطرة وبين اللبن، وهذا يتعلق بمن تسلم فطرته وتنجو من مؤثرات البيئة من حوله.
أما الذي تفسد فطرته بعوامل البيئة المحيطة به، فإنه ينشأ على عقائد منحرفة أجنبية عن فطرته السوية، فأي انحراف عن الإسلام فهو خلاف الأصل، فالأصل هو التوحيد، والشرك طارئ، لا كما يزعم الجهلة الكذابون الدجالون من أن الشرك هو الأصل، وأن الإنسان بطبيعته مشرك، كلا، بل الإنسان بفطرته موحّد كما بينا.
يقول الله تبارك وتعالى في المنافقين: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16]، فجعل الهدى هو رأس المال الحاصل عندهم، إلا أنهم عرّضوه للزوال فخسروه، وذلك حين بدلوا هذه الفطرة المستقيمة القريبة منهم، واشتروا بها الضلالة البعيدة عنهم، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.
إذاً: فما هو الهدى الذي كان عند المنافقين الذين اشتروا الضلالة بالهدى؟ إنّه الفطرة.