من علامات التواضع: ما ورد في بعض الآثار: (ما استكبر من أكل معه خادمه، وركب الحمار في الأسواق، واعتقل الشاة فاحتلبها) يعني: يلي شئون نفسه بنفسه فهذا لا يمقته.
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يخرج إلى السوق فيشتري، وكان سالم رحمه الله دهره يشتري في الأسواق، وكان من أفضل أهل زمانه.
وهذه المسألة أشار إليها بعض العلماء وهي أن العالم المقتدى به أو الذي له فضل ظاهر في الناس فلا يشتري حاجته بنفسه؛ لأنه إذا كان مشهوراً بين الناس بالفضل والعلم جاملوه في البيع والشراء لأجل دينه، فكان علماء السلف يحتمون أو يخافون أن يكون ذلك من الأكل بالدين، فكانوا يتحرجون من ذلك.
وقد سئل الإمام مالك: أتكره الرجل الفاضل أن يخرج إلى السوق فيشتري حوائجه فيحابيه الناس بفضله؟ فقال: لا، ولا بأس بذلك؟ قد كان سالم يفعل ذلك، وقرأ مالك: {يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] فلأي شيء يمشون في الأسواق؟ وذكر مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي في الأسواق.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: وإنما كره ذلك للقاضي أن يتولى بنفسه خوف المحاباة، وربما أن يميل لأجلها عن الحق، إذا رفع إليه من حاباه مكرمة، يخشى أنه إذا جامله شخص ثم كان هذا الشخص في يوم من الأيام خصماً في قضية فتتأثر نفسه بتلك المجاملة فيحابيه في الحق، فلأجل ذلك كرهوا للقاضي أن يلي شراء حاجاته بنفسه.
وعن ابن الزبير قال: في قوله تبارك وتعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] قال: سبيل الغائط والبول، وترون ما أنتم حتى لا تتكبروا ولا تغتروا بصوركم.
يعني: هذا من صور التدبر في هذه الآية العظيمة، وإلا فإن وجوه التدبر فيها عظيمة جداً، خاصة في هذا الزمان الذي كشف فيه العلم الحديث آيات الله سبحانه وتعالى وبراهين توحيده في خلق الإنسان.
وقال ابن الزبير: ما ينبغي لمن خرج من مخرج البول مرتين أن يفخر.
وعن محمد بن أبي الورد قال: دون الفهم أغطية على القلوب، قد حجبت الفهم الذنوب والتكبر عن المؤمنين.
أي: أن الإنسان ليفتح عليه في فهم آيات الله وتدبر آيات الله تبارك وتعالى، ومما يحول دون الفهم والبصيرة بآيات الله عز وجل أغطية تحول دون القلب ودون هذا الفهم، وهي الذنوب والتكبر على المؤمنين.
وتلا قوله تبارك وتعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146] فجعل عقوبة الكبر صرف قلوبهم عن تدبر آيات الله تبارك وتعالى.
وقال إبراهيم بن أدهم: لا ينبغي للرجل أن يضع نفسه دون قدره، ولا يرفع نفسه فوق قدره.
وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: من التواضع أن تقنع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك فضل عليه لدنياك.
يعني: تضع نفسك عند الشخص الذي هو أقل منك في الدنيا وتتواضع عنده؛ حتى لا يحسبك متفضلاً عليه، وتشعر في نفسك أنك أفضل منه بسبب ما أوتيت من الدنيا، فعند الفقير تواضع له، يقول: وأن ترفع نفسك عند من هو فوقك في دنياه حتى تعلمه أنه ليس لدنياه فضل عليك.
وعن إبراهيم بن عبد الله بن مسعود قال: من خضع لغني ووضع له نفسه إعظاماً له وطمعاً فيما قبله ذهب ثلثا مروءته، وشطر دينه.
أي: أن نصف دينك وثلثي مروءتك يذهبان؛ لأنك تعظم الغني لأجل غناه، حتى إن العلماء الذين أباحوا القيام للقادم قالوا: إذا كان كبير السن كالأبوين مثلاً، أو إذا كان عالماً تقوم له إعظاماً لدينه، وهذه وجهة نظر عند الذين يبيحون ذلك، بغض النظر عن التحقيق في المسألة، وقالوا: لكن لا تقم لغني لأجل غناه؛ لأن هذه دنيا لا ينبغي تعظيمها، وإنما تعظم الشخص لأجل الدين.
بل سئل ابن المبارك عن التواضع فقال: التكبر على الأغنياء.
وهذا ليس على ظاهره، لكن لا يحمله غنى غيره وفقر نفسه على أن يتذلل ويخضع له بمجرد ذلك.
وسئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له، ويقبل الحق من كل من يسمعه منه.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله! فيقول: عليك نفسك أنت تأمرني.
وما شابه ذلك من العبارات التي تقال في هذا الزمان، كقول الرجل: أنا أتقي الله أحسن منك! وغير ذلك من العبارات الفظة التي يتفوه بها بعض الناس، في حين ينبغي للمؤمن أن يتبرأ من حال من إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ.
وعن يونس بن عبيد قال: كنت أذاكر يوماً مع الحسن التواضع قال: فالتفت إلينا الشيخ فقال: أتدرون ما التواضع؟! أن تخرج من بيتك حين تخرج فلا تلقى مسلماً إلا رأيت أن له عليك الفضل.
هذا هو التواضع ألا تنظر للمسلمين بعين الازدراء والاحتقار، لكن لا تقع عينك إذا خرجت من بيتك على مسلم إلا وتحسب في نفسك أنه أفضل منك وخير منك.
وذكر عند الحسن الزهد فقال بعضهم: اللباس، يعني: الزهد يكون في الملابس، وقال بعضهم: المطعم، وقال بعضهم: كذا، فقال الحسن: لستم في شيء، الزاهد الذي إذا رأى أحداً من المسلمين قال: هذا أفضل مني، وهذا الكلام ليس متكلفاً في الحقيقة؛ لأنك قطعاً لا تعرف عن هذا الشخص من البلوغ مثل ما تعرفه من نفسك، أنت على يقين من حال نفسك، وتعرف ما اجتنيت من الذنوب والمعاصي والمآثم، ولا تعرف عن غيرك ما تعرفه من نفسك، فينبغي أن تنظر إلى كل مسلم أن هذا عند الله أفضل منك، فهذه هي حقيقة التواضع.