إن من الآثار السيئة لتقسيم أمور الدين إلى أمور شكلية ومظهرية وأمور جوهرية، وقشر ولب، وحقيقة وشريعة، أنها تؤثر في قلوب العوام أسوأ تأثير، وتورثهم الاستخفاف بالأحكام الظاهرة، وينتج عنها الإخلال بهذه الأمور التي أسموها كذباً وزوراً قشوراً، فلا تلتفت قلوبهم إليها، ولما لا تلتفت القلوب لهذه الأشياء فمن الطبيعي أن تخلو من إنكار المخالفة، وبالتالي تخلو من أضعف مراتب الإيمان تجاه هذا المنكر، وهو الإنكار القلبي، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل)، والإيمان يدخل في القلب، فإن لم يستطع الإنكار باليد واللسان فلا سلطان لأحد غير الله على القلب فإنه ينكر بقلبه، أما اليد أو اللسان فيمكن أن يكون له عذر في التخلف عن إنكار المنكر أحياناً بهما.
فالتفريط في محقرات هذه الأعمال يؤدي إلى التفريط في عظامها، فإذا بدأ الإنسان في التردي في دينه بسبب التفريط في الصغير، فإن التفريط في الصغير يؤدي إلى التفريط في الكبير؛ لأن استمرار هذا التفريط يتحول مع الوقت إلى عادة تأسر الإنسان، وتنتهي بصاحبها إلى قلة الاكتراث بأمور دينه والتهاون بها.
وكما أشرنا من قبل فإننا إذا تسامحنا معهم في تقسيم الدين إلى قشور وإلى لباب، فإننا نلفت أنظارهم إلى أن قياس أمور الدين على الثمار، من حيث كون كل منهما له قشر وله لب، وظاهر وباطن، وهذا لا يعني أن القشرة التي أوجدها الله للثمرة إنما خُلقت عبثاً، حاشا وكلا، وإنما خلقها الله سبحانه وتعالى لحكمة عظيمة، وهي المحافظة على اللب نفسه، فهذا يحملنا على ألا نستهين بالقشر إذا تسامحنا في هذا الاصطلاح؛ لأن القشر حارس أمين على الثمرة، إذ لا يمكن أن تتخيل ثمرة بدون قشر، وإلا فإنه يسرع إليها الفساد، وهذا شيء مجرّب ومعروف.
وهكذا الشأن في أمور الدين الظاهرة، حيث تقوم بنفس الدور الذي تقوم به القشرة في حمايتها للب الثمرة.
كذلك تقسيم العلماء للدين إلى أصول وإلى فروع، قد استغله بعض الخبثاء الذين يريدون بالدين سوءاً، وأخذوا يذهبون بهذا التقسيم بعيداً عما أراده به العلماء؛ لأن العلماء حينما قسموا الدين إلى أصول وإلى فروع لا يُظن بهم أنهم أرادوا بذلك إيجاب الاتفاق على الأصول مع التسامح مطلقاً في الفروع.
فترى بعض الناس يسيئون فهم هذا التقسيم، فيميعون كل قضية شرعية بدعوى أن اختلاف الأمة في دينها رحمة، والاختلاف رحمة، فلذلك يقولون: من قلد عالماً لقي الله سالماً! حتى لو كان هذا الكلام فاسداً في غاية الفساد أو مصادماً للنصوص! فبالتالي يؤدي الأمر إلى الترخص واتباع الهوى، ونقص العبودية عند هؤلاء الناس، ويلزم من قولهم هذا أن الاتفاق يكون سخطاً، وهذا ما لا يقوله مسلم.
أما إذا قالوا كما قال ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه: الخلاف شر.
إذاً: لو نظرنا إلى الخلاف على أنه شر، لسعينا إلى الاتفاق ورأيت ذلك في كثير من المسائل المتناقضة التي لا يمكن التوفيق بينها إلا بردّ بعضها المخالف للدليل وقبول البعض الآخر الموافق له، وإلا إذا صح نسبة قولين متضاربين تماماً إلى الشريعة فهذا من التناقض الذي نزهت عنه الشرعية؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فليس ممكناً أبداً في الشريعة أن يكون في المسألة الواحدة قولان: الأول واجب والآخر حرام، بل قد يكون هناك خلاف في مسألة، بحيث يقول فيها الأول: هذا واجب، ويقول الآخر: هذا مستحب.
أو في مسألة أخرى يقول فيها الأول: هذا حرام، ويقول الآخر: هذا مكروه.
أما أن يختلف اثنان، فيقول الأول: هذا واجب يأثم تاركه، والآخر يقول: بل حرام يأثم فاعله! فمثل هذا الخلاف تتنزّه عنه الشريعة الإسلامية، وهذا الخلاف ليس من عند الله، ولا يمكن أن يوجد في شرع الله، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
فلما كان التشريع من عند الله فليس فيه مثل هذا الخلاف، فلا يصح إذاً جعل الخلاف شريعة مُتّبعة ورحمة منزلة، فالواجب التخلص من الخلاف ما أمكن ذلك، أو تضييق دائرته؛ عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سدّدوا وقاربوا)، أما إذا تحرى الإنسان الدليل وعجز عن التخلص من الخلاف فحينئذٍ يعذر بعضهم بعضاً فيما قد يختلفون فيه.