إننا نعيش في وقت ارتفعت فيه مثل هذه النعرات، أعني نعرات القشر واللب، والظاهر والباطن، والحقيقة والشريعة، وغير ذلك من الشعارات التي سنبينها إن شاء الله تبارك وتعالى.
وهم يريدون بذلك تزهيد الناس في التمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وصل الأمر إلى أن صوّرت لهم شياطينهم وطوّعت لهم أنفسهم أن يسمّوا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تطرفاً، والله سبحانه يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، ويقول تبارك وتعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، وقال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
وحينما نردد بين الحين والآخر بل في عامة مجالسنا ذلك الشعار المقدس: وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ينبغي لكل مسلم حينما يسمع هذه الكلمة أو حينما يقولها أن يستحضر معناها؛ فهو ليس شعاراً يُرفع بدون تطبيق، بل كل موقف وكل محفل وكل أمر من الأمور لابد أن يوزن بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فنحن نعلمها ونعتقدها حينما نقولها، وكلما رفعنا أصواتنا بهذا الشعار فإننا نستحضر أنها تعني الاعتزاز بهذا الهدي، والاستعلاء به على كل طريقة تخالفه أو تنحرف عنه، انظر إلى العسكريين حينما يقفون الوقفة المعروفة احتراماً للعَلَم، مع أنه قطعة قماش، فنحن أشدّ احتراماً لهذا الشعار الذي يرفع فوق رءوسنا في كل حين: وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فالتمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما هو إلا عبارة عن مرآة تعكس ما يغمر قلوب مُحبيه صلى الله عليه وآله وسلم من حُب وتعزير وتوقير؛ لأن المحبة تدفع إلى التشبه والاتباع.
فالمحبة موافقة وتجانس ومشاكلة، وهذا نلمسه في كثير من الشباب الذين أولعوا حباً بالممثلين وبالرياضيين وغيرهم ممن يهوونهم ويعظمونهم، فتجدهم يقتدون بأحد هؤلاء في طريقة تسريح شعره أو في ملابسه، وربما قامت بعض الشركات بالترويج لبعض الملابس أو الموضات، فتظهرها مع صورة لبعض هؤلاء الممثلين أو الرياضيين أو غير ذلك ممن يسمونهم نجوم المجتمع، لتروج لها؛ لأن الناس سوف يقتدون بهم.
فهل يستكثرون علينا أن نهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولو كانت الموضة هي تقصير الثياب وتقصير السراويل لقالوا: سمعنا وأطعنا، وحباً وكرامة، وعلى العين والرأس، أما إذا فعلت هذا من منطلق الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنك تصير حسب زعمهم متطرفاً ورجعياً ومهووساً ومتخلفاً، فهل هذا من الإنصاف؟! إن ما يتمادى به هؤلاء من زعمهم أن الدين قشر ولب، وحقيقة وشريعة، ونحو ذلك، لا يعدو أن يكون جهلاً بالشرع، أو ضرباً من العبث صادراً من إنسان عابث سفيه لا يتمسك بدينه ولا يعظمه، أو أن يكون عن سوء نية وخبث طوية من أعداء الإسلام، فنحن نحاول الردّ إن شاء الله على الفريقين، ونبين أن مصطلح القشر واللب مصطلح ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، ولما كان ظاهره قد يكون فيه الرحمة عند بعض الناس وباطنه من قبله العذاب، انقاد له الطيبين السذّج الذين اتبعوا هذا الطُّعم فاستحسنوه، وصاروا يروجون له دون أن يدركوا أنه قناع نفاقي قبيح، وأنه من أقوال العلمانيين الذين يتخذون شعار القشر واللباب قنطرة يهربون عليها من الالتزام بشرائع الإسلام، دون أن يخدش في انتمائهم إلى الإسلام.
صحيح أن هذه القضية تتوقف عند حسن النية من بعض المسلمين الطيبين المخلصين، ويقولون: دعونا من القشور لكي نهتم باللب، فهذا أقصى ما وصل إليه الطيبون المخلصون قليلو العلم من المسلمين، أو ممن ينتسبون إلى الدعوة أحياناً، فمقصودهم إهمال القشر لأجل الاهتمام بالقضية الكلّية للأمة، والتي تتعلق بمصيرها ونحو ذلك.
لكن هذه القضية عند المنافقين الحريصين على اقتلاع شجرة الإسلام من جذورها لا تقف عند هذا الحد، بل هذا مجرد مدخل وسُلّم إلى نبذ القشر واللب معاً، وهدم الدين كلّه كما يفعلون حينما ينشرون شعار الاهتمام بروح النصوص، وعدم الجمود عند ظواهرها.
لو أن قاعدة الاهتمام بروح الشريعة تقف عند هذا الحد فلا بأس؛ لأن ما يُستقى من القواعد الكلية للشرائع الإسلامية هو مراعاة المصالح الكلية لها، لكن إنما يستقيم هذا إذا تناوله وتعاطاه أناس أسوياء أو علماء مخلصون لهذا الدين، لكنه خطير جداً إذا رفعه أصحاب العاهات الفكرية والنفسية، والمشوهون عقدياً؛ لأن مقصودهم من التركيز على روح النصوص هو أن يذهبوا بروح النصوص، وليس ذلك حفاظاً أو حرصاً على الشريعة ولا تمسكاً بها، ولا أنهم يريدون التمسك بروح النص كي يظهروا روح هذا النص، بل لكي يرفضوا منطوقه ومفهومه، أو يوظفوا هذا النص بعد أن يحرفوه عن مواضعه لخدمة أهدافهم الخبيثة.
فالقوم الذين يوافقونهم لا يفطنون إلى أنهم يقفون معهم في خندق واحد في دعوتهم إلى تقسيم الدين إلى قشر ولب، وغير ذلك من التقاسيم، وبالتالي يقفون دون أن يشعروا في خندق واحد مع أعداء الدين الذين يريدون لنا ديناً ممسوخاً، ويريدونه ديناً كدين الكنيسة المعزول عن الحياة، والذي يسمح لأتباعه بكل شيء، ويبيح لهم كل شيء بلا حدود، حتى وصل الأمر إلى إباحة الفواحش التي تتصادم مع الفطرة، كما هو معلوم من أحوالهم، فالكنيسة تنازلت عن كل شيء في دينها، حتى أباحت للقوم كل شيء مقابل أن يسمحوا لها بالبقاء حية، ولو على هامش الحياة! فكذلك هم يريدون من الإسلام نفس الشيء، وذلك بأن يصل الأمر بالمسلمين إلى أن يُعزل الدين عن الحياة، وأن يبيح كل شيء مقابل أن يسمحوا له أن يبقى حياً على هامش الحياة محبوساً في الأقفاص الشمعية، ولا يتركوا له أي بصمة على واقع الناس ولا على مجتمعاتهم، وحالهم كما بين الله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17].