روى البخاري والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن أم الربيع بنت البراء -وهي أم حارثة بن سراقة - أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا نبي الله! ألا تحدثني عن حارثة؟ -وكان قتل يوم بدر، أصابه سهم غرب- فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: يا أم حارثة! إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى).
قوله: سهم غرب، يمكن أن تقول: سهمُ غربٍ، أو سهمٌ غربٌ، وقد تحرك الراء، وهذا إذا لم يدر من أين أتاه هذا السهم، ومن الذي ضربه به، فيطلق عليه هذا الوصف.
وفي رواية: قال أنس: (أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول! لقد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع)، وفي بعض الروايات: (وإن تكن الأخرى اجتهدت عليه في البكاء، فقال: ويحك أوَهَبِلْتِ؟! أجنة واحدة هي؟! إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس الأعلى)، وزاد رزين: (إنه في الفردوس الأعلى، وسقفه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة، وإن غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، لَقَاب قوس أحدكم أو موضع قدّه -القاب: هو القَدْر، والقدّ: هو السوط- من الجنة خير من الدنيا وما فيها)، فمجرد الموضع الذي يوضع فيه السوط أو القوس خير من الدنيا وما فيها.
ويقول عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث: (ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت الدنيا وما فيها، ولنصيفها -يعني: خمارها- خير من الدنيا وما فيها).
فالشاهد من هذا الحديث السابق: قولها رضي الله عنها: (ألا تحدثني عن حارثة، فإن كان في الجنة صبرت)، وفي رواية: (فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب)، فهذه الأم مع تعلقها الشديد بابنها فإنها تصبر وتحتسب وترجو الأجر من الله تبارك وتعالى.
تقول: (وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء) وفي الروايات الأخرى: (وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع) أي: من البكاء والحزن الشديد عليه وذلك إذا علمت أن ابنها لم يفز بالجنة، فإن كان قد فاز بالشهادة وانتقل إلى ما هو خير من الدنيا فإنها تصبر وتحتسب، ولا تجزع ولا تحزن.
فهذه هي التربية النبوية، وهذه هي تربية الإسلام للنساء فضلاً عن الرجال، فإن هذه الأمة -كما ذكرنا- أمة ولود، تلد لأن لها رسالة في الحياة لا تنفك عنها أبداً، ألا وهي ذروة سنام هذا الدين، وهو الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.
فهذا الفعل من هذه الأم -ونظائرها كثيرات جداً في التاريخ الإسلامي- لعله هو السبب الذي جعل أعداء الإسلام يخافون من هذا الدين، وهم يفقهون جيداً طبيعة هذه الرسالة وطبيعة هذا الدين، وأنه إذا عادت روح الإسلام من جديد في هؤلاء المسلمين فلن تقف أمامهم قوة في الأرض، فهم يعلمون جيداً ما الذي يمكن أن تثمره التربية الإسلامية، والفهم الإسلامي الصحيح لرسالة هذه الأمة في الوجود من مصاعب تزلزل وتهدد كيانهم.
وإذا قلبنا صفحات التاريخ الإسلامي فإنا نجد نماذج كثيرة جداً، سواء من النساء أو حتى من أطفال المسلمين، فهناك علاقة وثيقة بين ما شرعنا في دراسته من قضية تحديد النسل، والترغيب في أن تكون الأمة كلها ولوداً لا امرأة واحدة، وبين رسالة هذه الأمة وهي الجهاد والبذل في سبيل الله تبارك وتعالى، وما صوّر لنا من الترغيب فيما يضاد المقاصد العليا للشريعة الإسلامية إنما هو مظهر من مظاهر المؤامرة المحكمة على عقائدنا، وعلى ديننا، وعلى أمتنا.