ونقترب أكثر من الموضوع، ونناقش حكم وسيلة من وسائل منع الحمل كانت معروفة عند الرعيل الأول، والأدلة التي وردت في هذه الوسيلة، ومن المعروف أن الجاهليين في الأصل كانوا يسلكون هذا المسلك في التخلص من الأولاد خوف الفقر بعدّة أساليب، منها: قتل الأولاد بوأدهم، سواء الذكور أو الإناث، فكانوا أحياناً يقتلون الذكور والإناث خوف الفقر.
وأيضاً من الوسائل الأولى التي كانت عندهم ما وصل إليه العصر الحديث من أساليب تحديد النسل، وأغلب من يتكلم في قضية حكم تحديد النسل يتكلم في حكم العزل، على اعتبار أنه كان الوسيلة المتاحة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمنع الحمل.
وعند الكلام عن حكم العزل لا بد أن ننتبه إلى أننا نناقش حكمه بالنسبة للأفراد، ولا نناقش حكمه بالنسبة للأمة في مجموعها، وإلا فالأمة في مجموعها لا يجوز لها الترغيب في تقليل النسل بصورة كلّية، كما تبث لها الأجهزة الإعلامية الآن، حتى تضاد المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، والتي منها: تكثير النسل.
إذاً: فكلامنا عن حكم العزل بالنسبة لآحاد الناس عند حصول ظروف خاصة، فنبين حكم هذه الرخصة على التفصيل الذي نذكره إن شاء الله تعالى، وما عدا ذلك من الوسائل فيقاس على وسيلة العزل، وإن كان العزل في الحقيقة فيه كثير من الأضرار، فإذا وجدت وسيلة ليست فيها هذه الأضرار فتكون أفضل من العزل من باب أولى، ولكن في الواقع أن كل الوسائل تقريباً لها أضرارها ومخاطرها، ولا توجد -بإقرار الأطباء- وسيلة مثالية لتحديد أو منع الحمل مطلقاً؛ لأنه ضد الفطرة.
أما أهم الأحاديث التي وردت في العزل فحديث جابر رضي الله عنه قال: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل).
متفق عليه.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أصبنا سبياً فكنا نعزل، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أوَإنكم لتفعلون؟ قالها ثلاثاً، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة).
رواه البخاري ومسلم.
وروى مسلم عن أبي سعيد أيضاً قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بني المصطلق، فسبينا كرائم العرب، فأطالت علينا العزبة، ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل، وقلنا: نفعل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرنا لا نسأله؟! فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا عليكم ألا تفعلوا، ما كتب الله خلق نَسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون).
وروى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل، فقال: (لا عليكم ألا تفعلوا ذاكم، فإنما هو القدر).
وفي الحديث أيضاً: (لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لكان منه الولد، وليخلقن الله نفساً هو خالقها).
وروى مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ولِمَ يفعل ذلك أحدكم؟! -ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم- فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها).
وروى مسلم أيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا -أي: التي تسقي لنا- وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل)، لأنهم كانوا يكرهون حمل الإماء؛ لأنها إذا صارت أم ولد فلا بد أن تبقى معه بقاءً دائماً، وأحياناً ربما فعل الصحابة ذلك خشية أن يقع ضرر بالرضيع إذا حدث الحمل أثناء الرضاعة.
يقول هذا الرجل: (إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا، وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، فقال: أعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها، فلبث الرجل، ثم أتاه، فقال: إن الجارية قد حملت، فقال: قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها).
وروى مسلم وغيره عن جذامة بنت وهب -أخت عكاشة - حديثاً طويلاً، جاء فيه: أنهم سألوه صلى الله عليه وآله وسلم عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ذلك الوأد الخفي، ذلك الوأد الخفي).
وعن جابر رضي الله عنه قال: كانت لنا جوارٍ وكنا نعزل، فقالت اليهود: إن تلك الموءودة الصغرى، فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: (كذبت اليهود، لو أراد الله خلقه لم تستطع رده).
فعموم هذه الأحاديث ما عدا حديث جذامة بنت وهب يفيد جواز العزل عن المرأة؛ اتقاء الحمل، وإن كانت لا تخلو من الدلالة على كراهة هذا الفعل، فقول جابر في الحديث الأول: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنهم يعزلون، وأنه كان يقرهم على ذلك، وإلا فما معنى قوله: (ونحن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)؟ فلو كان حراماً لم يسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا التعبير يعتبره العلماء في حكم الحديث المرفوع حتى ولو لم يضف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع أنه هنا قد أضيف.
وأما الحديث الثاني الذي فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أو إنكم لتفعلون؟)، فهذا يحتمل أنه استنكار على وجه كراهة العزل، ويحتمل أن الاستنكار على وجه التحريم.
كذلك قوله في الحديث الثالث والرابع: (لا عليكم ألا تفعلوا) يحتمل أنه إذن، ويحتمل أنه نهي، فيحتمل أن يكون معنى الجملة: ليس عليكم أن تتركوا ذلك، ويحتمل أن يكون: لا تعزلوا، وعليكم ألا تفعلوا ذلك، إلا أن الحديث الثالث وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (اعزل عنها إن شئت) قد رفع أحد الاحتمالات، فبقيت الجملة الأولى دالة على الكراهة، وأما الجملة الثانية فدلت على الإذن وعدم الحرج.
فهذه سبعة أحاديث من المجموع الذي سردناه تدل على جواز العزل من حيث المبدأ، بقطع النظر عن الإباحة أو الكراهة، والحديث الذي يدل بظاهره على المنع هو حديث جذامة بنت وهب فقط، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سألوه عن العزل: (ذلك الوأد الخفي)، فكيف نوفق بين حديث جذامة هذا وبين الأحاديث الأخرى؟ لقد سلك العلماء في ذلك عدة مسالك، أرجحها ما ذكره الإمام النووي في شرح مسلم حيث قال: ويفهم من كلام الطحاوي في شرح معاني الآثار أن حديث جذامة هذا يحمل النهي فيه على كراهة التنزيه، ويحمل الإذن الوارد في الأحاديث الأخرى على عدم الحرمة، فيكون القدر المشترك في دلالة الأحاديث المختلفة كلها هو كراهة التنزيه.
فهذا هو الترجيح الذي اعتمده النووي والطحاوي كما حكى ذلك عنه وابن حجر، وجماهير الفقهاء والمحدثين.
وقد ضعف بعض العلماء حديث جذامة؛ بسبب كثرة الأحاديث الصحيحة المعارضة له، وبعض العلماء قالوا: إن حديث جذامة مضمونه المنع، وهذا المنع كان معمولاً به، ثم نسخ فيما بعد بالأحاديث الدالة على الجواز.
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: إن حديث جذامة هو الذي يجب العمل به؛ لثبوته في الصحيح، ولاضطراب طرق الأحاديث الواردة في مقابلته، ولأن حديث جذامة دال على المنع، والأحاديث الأخرى دالة على الإباحة، وعند التعارض يقدم الحاظر على المبيح، وسواء جاء كلام الإمام ابن حزم أو من قبله بدعوى النسخ أولم يجئ؛ فإن ادعاء حصول النسخ بدون توفر شروط النسخ غير مقبول، والله أعلم.
فخلاصة الكلام: أن في هذا الأمر كراهة تنزيه، وأن الأولى عدم فعل العزل، وقد ذهب الأئمة الأربعة بناءً على هذه الأحاديث إلى جواز عزل الرجل ماءه عن زوجته، مع الكراهة التنزيهية، واتفق الإمام مالك وأحمد وأبو حنيفة على أن ذلك مشروط برضا الزوجة، واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من وافق الجمهور في هذا الشرط، ومنهم من خالفه فأجازه بدون ذلك.
وخلاصة الكلام في هذا: أن الأئمة الأربعة متفقون على جواز العزل مع الكراهة التنزيهية عن الزوجة إذا كان ذلك برضاها، فإن لم يكن برضا منها فالأئمة الثلاثة متفقون على التحريم، وللشافعية في ذلك وجهان، رجح الإمام النووي منهما عدم التحريم، وفي الحديث: (نهى أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها) وهذا يقوّي ما ذهب إليه الجمهور من اشتراط رضا الزوجة، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) فللزوجة حق في الولد كما للزوج حق في ذلك، فلا ينبغي له تفويت حقها بدون إذنها، بجانب أن العزل إذا لم يكن بإذنها فإن فيه مضار طبية وصحية، فلا ينبغي أن يكرهها على ذلك.
وأيضاً حتى يباح العزل يشترط ألا يكون فيه ضرر للزوج أو الزوجة، فإذا نشأ عن العزل ضرر بهما أو بأحدهما وعلم ذلك بشهادة طبيب موثوق حرم العزل، سواء توفر رضا الزوجة أم لا؛ إذ الشرع لا يملّك الإنسان اختياراً بصدد الإقدام على ما قد يضره.
أيضاً يدخل في حكم العزل هذا ويقاس عليه كل ما قد يشبهه من الوسائل التي يتخذها الزوجان أو أحدهما لمنع الحمل، كالحبوب التي تستعملها النساء -وغير ذلك مما سنذكره- فإذا اتفق الزوجان على شيء من ذلك ولم يسبب ضرراً بالجسم والنفس بناءً على مشورة طبيب موثوق جاز استعماله مع كراهة التنزيه.