في الحديث الذي ذكرناه من قبل (العين حق) فما هو الفرق بين الحاسد وبين العائن؟
صلى الله عليه وسلم يشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من يريد أذيته، لكن يوجد فرق في بعض الأمور، فالحاسد قد يحسد ما لم ير، فقد يحسد شيئاً يوصف له ولم يره، فيحسد الحاسد المحسود عند غيبته وعند حضوره أيضاً، ويحسد في الأمر المتوقع قبل وقوعه.
أما العائن فلا يعين إلا ما يراه، ولا يحسد إلا ما يراه بعينه؛ لذلك سمي العائن، إذ تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته، وإذا كان الحاسد يحسد في الأمر المتوقع قبل وقوعه فإن العائن يحسد في الأمر الموجود بالفعل، هذا أول فرق.
الحاسد مصدر حسده تحرك قلبه، واستكثار النعمة على المحسود، أما العائن فمصدر فعله انقداح نظرة العين، وقد يعين ما يكره أن يصاب بأذى منه، فالعائن قد يعين شخصاً لا يحب أذيته كابنه مثلاً أو ماله أو نفسه أحياناً، فالعائن يصيب بعينه نعمة موجودة، وقد يعين من يكره أن يصاب بأذى منه كولده وماله، وقد يصيب من لا يقصده من جماد أو حيوان أو زرع أو مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه، يعني: أنه يحسد صاحب المال، لكن أيضاً يمكن أن يحسد نفس هذا المال، وربما أصابت عينه نفسه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين، وسوف نأتي بالحديث الذي يدل على ذلك إن شاء الله تعالى.
وكما ذكرنا بالنسبة للحاسد مصدر حسده تحرك القلب واستكثار النعمة على المحسود، فهو يتمنى زوالها عنه، أو عدم حصولها له، وهذا غاية في حطة النفس.
والمقصود: أن العائن حاسد خاص، فالحاسد أعم من العائن، فكل عائن حاسد ولابد، وليس كل حاسد عائناً، فإذا استعاذ الإنسان من شر الحاسد دخل فيه العائن؛ لأن هذه الكلمة أعم؛ فهذا من شمول القرآن وإعجازه وبلاغته.
قال غير واحد من المفسرين في قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم:51]: المقصود بهذه الآية الإصابة بالعين، فأرادوا أن يصيبوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليه قوم من العائنين وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حجته، وكان طائفة منهم تمر به الناقة والبكرة السمينة، فيعينها بمجرد أن ينظر إليها، يقول لخادمه: خذ المكتل والدرهم وائتنا بشيء من لحمها، فما تبرح حتى تقع فتنحر.
والدليل على ذلك من السنة حديث: (العين تدخل الرجل القبر، والجمل القدر).
قال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل، ثم يرفع جانب خبائه -أي: جانب الخيمة أو الخباء- فتمر به الإبل فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه! فما تذهب إلا قليلاً حتى يسقط منها طائفة.
وحكى المفسرون: أنه طلب الكفار من هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ويفعل به كفعله في غيره؛ فعصم الله رسوله وحفظه وأنزل عليه: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم:51] وفي الآية كلام آخر كثير.