الحمد لله الذي جعل ذكره لذة للمتقين، يتوصلون به إلى خيرَي الدنيا والدين، وجُنة واقية للمؤمنين من سهام الشياطين، وشر إخوانهم المتمردين، من طوائف الخلق أجمعين.
وصلى الله على خير البشر الذي أُنزل عليه: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، فبيّن للعباد من فضائل الأذكار، وما فيها من المنافع الكبار، والفوائد ذوات الأخطار، ما ملأ الأسفار، وتناقلته ألسن الرواة في جميع الأعصار، وعلى من صاحبه ووالاه، وسلّم تسليماً كثيراً لا يدرك منتهاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
عن أنس رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خَفَت فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! لا تطيقه أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قال: فدعا الله له، فشفاه) رواه الإمام مسلم في صحيحه.
قوله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين) هذا فيه استحباب عيادة المريض.
(قد خفت) أي: سكن وسكت، والمقصود أنه ضَعُف وسكن وسكت فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل كنت تدعو بشيء) أي: هل كنت تدعو الله بشيء (أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم! ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا) أي: أنه تمنى أن تعجل له العقوبة، فنفس هذا اللسان ونفس هذا الفم الذي خرجت منه هذه الدعوة فاستجيبت كان يمكن أن يخرج منه سؤال الله العافية فتستجاب أيضاً؛ لأنا نهينا عن تمني البلاء، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاثبتوا)، لكن ليس للإنسان أن يسعى إلى استجلاب البلاء، ولا أن يتمناه، فربما صدر منه الضجر أو الشكوى أو التسخط على قدر الله عز وجل، فإن للبلاء أهلاً في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موعوك -أي: مريض-، وعليه قطيفة، يقول: فوضعت يدي على جبهته فقلت: ما أشد حماك يا رسول الله! قال: نعم، إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.
فللبلاء أهل ذكروا في هذا الحديث وفي غيره من الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)، فمن لم يكن من أهل البلاء لم يطقه فربما صدر منه السخط، لكن إذا ازداد يقين العبد وابتلي فإن الله يعينه على الصبر على ذلك.
لذلك كان السلف والصالحون -كما جاء في الحديث- يفرحون بالبلاء أشد من فرح أحدكم بالعطاء؛ لقوة يقينهم فيما عند الله عز وجل من الثواب، أو لأنهم أمثل الناس وأشدهم تمسكاً بطريق الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
(يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فالعبد إذا ابتلي رغماً عنه بعد أخذه بالأسباب وسعيه حسب الإمكان، فإن الله تعالى يعينه حينئذ، وأما إذا استجلب لنفسه البلاء بتقصير أو تراخ في الأخذ بالأسباب فإنه يوكل إلى نفسه ولا يعان إلا أن يشاء الله عز وجل.
ففي هذا الحديث كان هذا الصحابي يدعو الله عز وجل يقول: (اللهم! ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا) أي: حتى يأتي يوم القيامة وليس عليه شيء يستحق العقوبة من أجله، ويصفو له الثواب بدون كدر، فنفس هذا اللسان الذي دعا هذه الدعوة في وقت الإجابة فاستجيبت له كان بإمكانه أن يدعو بالعافية كما جاء في الحديث الضعيف: (إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي) فهذا حديث ضعيف معروف، لكن المقصود أن العافية أوسع، والذي يستجيب لك في الدعاء بالبلاء يستجيب في الدعاء بالعفو والعافية في الدنيا والآخرة.