شبهات المخالفين في هذه المسألة ركيكة وضعيفة، كقولهم: إن الوعد المالي ملزم، وما الجواب عن هذا؟ نقول: أولاً: هذا فيه خلاف، هل الوعد ملزم أو غير ملزم؟ ففي وجوب الإلزام به ثلاثة مذاهب: وجوب الوفاء به مطلقاً.
عدم وجوب الوفاء به مطلقاً.
إذا كان يترتب عليه ورطة فيكون ملزماً.
ثانياً: أن الخلاف إنما هو في الوعد بالمعروف -العدة-، وليس له علاقة بموضوع بيع المرابحة؛ لأن بيع المرابحة هو تبادل تجاري، ومعاوضة تجارية فيها كسب وربح، وهذا أول فرق.
ويقولون: الأصل في المعاملات الإباحة إلا ما جاء به نص صحيح الثبوت صريح الدلالة يمنعه ويحرمه فيوقف عنده.
فنقول: نعم الأصل في المعاملات الإباحة، لكن إذا أتى دليل شرعي يتعرض لهذه الإباحة ويزيلها فلا شك أنه لا يصح الاستدلال بهذه القاعدة، فقد أتى ما يمنع هذا، مثل حديث حكيم بن حزام وغيره من الأدلة التي نقلت هذه الإباحة إلى الحرمة.
قالوا: إذا كان تحريم الحلال خطيراً فأخطر منه أن تحل حراماً، والله سبحانه تعالى يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، والبيع يشمل المقايضة التي هي عين بعين، أو الصرف الذي هو ثمن بثمن مثل ذهب بذهب، وفضة بفضة، أو السلم الذي هو عين بثمن، والبيع المطلق سواء حالاً أو مؤجلاً، قالوا: إن هذا يشمل المرابحة، فالمرابحة تدخل في أنواع البيوع، مثل: بيع المساومة، وبيع المزايدة، وبيع الأمان، فبيع الأمان يدخل فيه المرابحة، فدخلت كلمة أحل الله في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275].
صلى الله عليه وسلم أقسام البيوع هي: بيع المساومة، وبيع المزايدة، وبيع الأمانة، وبيع الأمان ثلاثة أنواع: بيع المرابحة، وبيع التولية، وبيع الوضيعة أو المحاطة، فبيع المرابحة الداخل في البيوع التي أحلها الله هو على اصطلاح الفقهاء الأقدمين في المرابحة، وليس هو الذي نتكلم عنه الآن، وهي صورة مختلفة تماماً عن المرابحة، ولا يجوز أن نستغل تشابه الأسماء بل لابد من تحقيق المعنى المراد بهذا الاسم.
يقولون أيضاً: إن الحاجة ماسة وداعية إليه في التعامل، كما دعت الحاجة إلى السلم والاستصناع.
و صلى الله عليه وسلم أن السلم يختلف عما يدعون أنه مشروع، والأحاديث معروفة في ذلك، ويغتفر ما فيه من غرر، لكن السلم أذن به الشرع، أما الغرر في هذه المعاملة؛ فأين الدليل على أن الشرع أذن فيه والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تبع ما ليس عندك)؟! يقولون: واغتفر ما يعتريها من الغرر تقديراً للحاجة الداعية، ولاتساع رقعة التعامل، وتضخم رءوس الأموال، فإذا لم تتم هذه المعاملة وقع المسلم في حرج، وشق عليه فوات مصالح كان يريد تحقيقها، وإذا فتحنا هذا الباب فسيضطر الناس إلى القرض بفائدة، وهذا هو الربا، لكن دينه يعصمه من الربا المحرم، فيلجأ إلى هذا التعامل تحت وطأة الحاجة أو الضرورة، فحتى لا يلجأ الناس إلى الربا لزمنا أن نفتح لهم هذا الباب، ونسهل عليهم؛ حتى ننتشلهم من المحرم، ونحقق مصالح المسلمين.
فالجواب: نحن نوافقهم على أن القول بإباحة بيع المواعدة بهذه الصورة أيسر على الناس، ولكن هل كل ما اختلف فيه العلماء يجوز الأخذ فيه بالأيسر؟ وهل اليسر مسلك من مسالك الترجيح عند التعارض؟ الترجيح عند التعارض يكون باعتبارات أخرى لا محض اليسر، وفي الحديث: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً).
إذاً: الترجيح يكون بالنظر إلى الأيسر للناس في مجالات التطوع الاختيارية، أما في أشياء مقطوع بحرمتها فلا يوجد شيء اسمه تيسير، وما كان إثماً فقد كان صلى الله عليه وسلم أبعد الناس منه.
إذاً: ليس كل ما اختلف العلماء فيه يجوز الأخذ فيه بالأيسر؛ إذ الواجب عند اختلافهم هو الأخذ بما هو أرجح دليلاً؛ لأن ذلك أقرب إلى امتثال أمر الله تبارك وتعالى، وليس اختلافهم دليلاً على جواز كل الوجوه التي اختلفوا عليها؛ لأن التعبد ليس بالخلاف، وهذه هي الضلالة التي تحاول بعض الجماعات أن تغرسها الآن في الناس في زمن الغربة، يقولون: ضعها في رقبة عالم واطلع سالم! وهناك دعاة يقلدون الجهلة هذا الكلام ويقولون: من قلد عالماً لقي الله سالماً! وهم لا يستدلون بالحديث، ولكن يقول: ما دام أن عالماً قال به فأنا آخذ بكلام العالم، فيستترون وراء المسألة، ثم ننتهي إلى اتباع الهوى لا اتباع الشرع، والانقياد لداعية الهوى، بحجة أن عالماً قال بها، ولو تتبعت زلات العلماء اجتمع فيك الشر كله.
إذاً: لا ينبغي إعمال نظرية التعبد بالخلاف، وهذه من البدع المعاصرة؛ لأن معنى ذلك أنه يجوز للمكلف أن يفعل الواجب أو يتركه، وأن يفعل الحرام وأن يتركه، ولا يلتزم إلا بالحكم المجمع عليه، والمسائل المجمع عليها قليله جداً بالنسبة لآلاف المسائل المختلف فيها، فهل مجرد وقوع الخلاف في مسألة يبيح لك أن تأخذ بأي قول؟! إذاً: ستأخذ من مذهب إباحة النبيذ، ومن مذهب إباحة نكاح المتعة، ومن مذهب ربا النسيئة، فلا يبقى واجب ولا محرم، ولا يفقه شيء إلا المجمع عليه، وهذا فساد عريض، فهذا نقد وتحطيم لقاعدة التكليف كما بينه الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات، فكيف يجوز الأخذ في مثل هذه المسألة الخطيرة بقول شاذ، بل بقول غير محدد ولا مثقف، وكل كلامه منسوب إلى ابن شبرمة، وقد سبق أن بينا أنه غير راجح، وليس له علاقة بموضوعنا، علاوة على أنه قول شاذ من بين أقوال الفقهاء.