الدليل الثاني: عموم الأحاديث النبوية التي نصت على النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده، والبنك باع للعميل ما لا يملك، فعن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال: (قلت: يا رسول الله! يأتيني الرجل فيسألني عن البيع لما ليس عندي فأبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تبع ما ليس عندك)، رواه أصحاب السنن وحسنه الترمذي.
وبعض الناس يفعلون هذا بدون أن يشعروا، قد تذهب إلى الصيدلية لتشتري دواء، ولأنه حريص على الزبون يأخذ منك الثمن، ثم يرسل من يشتريه من صيدلية ثانية، وهو بهذا سيبيع لك ما ليس عنده، ولابد أن يملك السلعة أولاً ثم يبيعها، والصحيح أنه يقعده عنده، ويبعث من يجلب له الدواء من صيدلية أخرى، حتى يمتلكه، ثم يبيعه للزبون.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: وعلته الغرر في القدرة على التسليم وقت العقد.
والحديث ينص على النهى عن الغرر، مثل أن يبيع السمك في الماء، أو الطيور في الهواء، أو الأجنة في بطون أمهاتها، وهذا كله يسري فيه الغرر والجهالة فيبطل.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)، رواه أصحاب السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: فاتفق لفظ الحديثين على نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده، فهذا هو المحفوظ من لفظه صلى الله عليه وسلم، وهو يتضمن نوعاً من الغرر؛ فإنه إذا باعه شيئاً معيناً وليس في ملكه ثم مضى ليشتريه ويسلمه له كان متردداً بين الحصول وعدمه، فكان غرراً يشبه القمار المنهي عنه، وقد ظن بعض الناس أنه إنما نهي عنه لكونه معدوماً، فقال: لا يصح بيع المعدوم، وروى في ذلك حديثاً: (أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المعدوم)، وهذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب الحديث، ولا له أصل.
اهـ من زاد المعاد.
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: (قوله: (لا تبع ما ليس عندك) يريد بيع العين دون بيع الصفة، ألا ترى أنه أجاز السلم إلى الآجال، وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال، وإنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر، وذلك مثل أن يبيعه عبده الآبق، أو جمله الشارد، ويدخل في ذلك كل شيء ليس بمضمون عليه، مثل أن يشتري سلعة قبل أن يقبضها.
وهذا يوافق كلام ابن القيم في بيان العلة، وهذا الحكم ثابت: لا يبع ما ليس عنده، والاختلاف في العلة، فبعضهم قال: لإن هذا بيع لشيء معدوم، فيحتمل أنه لا يجد السلعة التي باعها له، فلا يقدر على تسليمها، لكن لو قبضها وحازها فإنه يقدر على تسليمها، فنهي عن بيع مالا يملك من أجل الغرر، كمن يبيع الجمل الشارد، وهو لا يقدر على تسليمه، والصحيح أن هذا النهي ليس من باب بيع المعدوم، ولكن لوجود الغرر، وهو عدم القدرة على التسليم، وأياً كان الأمر فالحديث ثابت.