اختلف العلماء في حكم الوفاء بالوعد على المال على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يلزم ولا يؤمر وجوباً أن يفي بالمعروف مطلقاً، وهذا مذهب جمهور العلماء.
وأدلة هذا القول: أنه وعد بمعروف محض، ولا دليل على الإلزام بالمعروف، وأيضاً هو في معنى الهبة، والهبة لا تتم عند الجمهور إلا بالقبض خلافاً للمالكية، فإذا وهبت شخصاً لا يتم عقد الهبة إلا إذا قبضها، وذلك يقتضي عدم الحكم بها قضاءً فيما لو رجع الواهب عنها قبل قبض الموهوب إياها، فإذا كانت الهبة لا تلزم ولا تجب إلا بالقبض فكيف تلزم الهبة لو وعده بها مجرد وعد؟! يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: واستدل من لم يوجبه بأنه في معنى الهبة، والهبة لا تلزم إلا بالقبض عند الجمهور، وعند المالكية تلزم قبل القبض.
وذكر نحوه ابن قدامة حيث استدل بهذا الفرع على عدم وجوب الوفاء بالوعد قضاءً وحكماً.
القول الثاني: الإلزام بالوفاء بالوعد مطلقاً: وهذا محكي عن عمر بن عبد العزيز وابن الأشوع وابن شبرمة.
وأدلتهم هي النصوص الواردة في وجوب الوفاء بالوعد، وذكرنا بعضاً منها، مثل قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:77]، وقوله تعالى: {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16]، وغير ذلك من الأدلة، وكذلك استدلوا بحديث ابن مسعود: (العدة دين)، وهذا الحديث ضعيف.
وهذا المذهب ضعيف؛ أولاً: لعدم ثبوته صراحة عن هؤلاء الذين حكي عنهم.
ثانياً: من حيث الأدلة.
القول الثالث: وهو رواية عن الإمام مالك، وهو التفصيل في المسألة: فيقولون: إن أدخل الواعد في وعده الشخص الآخر الذي وعده في ورطة لزمه الوفاء به، وإلا فلا يلزم الوفاء به.
مثال: رجل قال لرجل: تزوج، فقال له: ليس عندي ما أصدق به الزوجة، وما أملك مهراً، فقال له: تزوج والتزم لها الصداق في ذمتك، وأنا أدفع عنك، فتزوج على هذا الأساس، فقد احتمل هذا الوعد ورطة، فيلزم الواعد الوفاء به.
واستدل من قال بذلك بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار).
ونقول في الرد على هذا الاستدلال: نعم (لا ضرر ولا ضرار)، ولا يجوز لإنسان أن يبدأ بالإضرار بالغير، ولا أن يقابل الإضرار بالإضرار بالمثل، وهذا غاية ما يدل عليه الحديث، ولا يدل الحديث على إلزامه بأن يغرم له مالاً حتى لو أضر به، ولا يلزم أن يغرم هذا المال الذي التزمه.
مثال آخر: لو قال له: اهدم دارك، وأنا أسلفك ما تبني به، فهدم الدار، هل يلزمه أن يسلفه لأنه يترتب على إخلاف الوعد إيقاعه في ورطة؟ ففي رواية عن الإمام مالك أن إخلاف الوعد إذا كان يترتب عليه ورطة فيلزم به، والقول الآخر لا يلزم.
وقول قال له: اشتر كذا وأنا أعطيك ألفاً أعينك به، فلا يقضى على الواعد في المال إلا إذا دخل الموعود في الأمر، فتزوج في المثال الأول، أو هدم داره في المثال الثاني، أو اشترى سلعة في المثال الثالث.
هذا هو الخلاف في هذا الموضوع، والوعد الذي يتحدث عنه المالكية في هذا القسم ليس هو الوعد التجاري، فالوعد هنا ليس وعداً تجارياً فيه شبهة مرابحة، فلما يقول لك: تزوج وسأدفع لك المهر، أو اهدم البيت وأنا أسلفك لتبنيه من جديد، فهل هذا فيه وعد تجاري فيه ربح؟ لا، حتى الخلاف في قضية الوفاء بالوعد ليس له علاقة بالموضوع، بل هو موضوع بيع المواعدة، فالوعد الذي يتحدث عنه المالكية ليس هو الوعد التجاري، وإنما هو الوعد بإنشاء المعروف كما عرفه ابن عرفة في قوله: (الوعد إخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل)، وعلى هذا الصنف من الوعد يدور جميع كلام المالكية من قرض أو كفالة أو عارية أو إبراء أو نحو ذلك.
أما الوعد التجاري أو الوعد في المعاوضات مقابل السلع التي سيأخذ عليها ربحاً أحد الطرفين من الطرف الآخر فهو شيء آخر لم يدر بخلد المالكية، فبعض المعاصرين الذين يبيحون بيع المواعدة المتبع في المصارف، يجعلون الخلاف المذكور بين العلماء هنا على مسألة الوفاء بالوعود المالية المعاصرة، ولم يدر بخاطر العلماء أبداً أن يستدل بكلامهم على مثل هذا الفعل المعاصر الآن، بدليل أن علماء المالكية ذكروا في كتبهم هذه الصورة الموجودة الآن، وقطعوا بتحريمها كما سنبين ذلك إن شاء الله تبارك وتعالى.
والقول بأن عملية المرابحة التي تديرها المصارف الإسلامية الآن عملية مستحدثة وتحتاج إلى اجتهاد، كلام غير صحيح؛ لأن كثيراً من الفقهاء نصوا على هذه المسألة بعينها من المالكية والشافعية والحنيفية والحنابلة، وكل من نص عليها حرمها، وبعض الفقهاء المعاصرين الذين أباحوها ليس لهم سوى أنهم قاموا بعملية تلفيق وترقيع، فما صار بيع المواعدة المعاصر حلالاً عند هذا الفريق من العلماء إلا بالتلفيق بين مناهج ليست المسألة حلالاً في منهج من هذه المناهج، لكن أجروا عملية التلفيق كما أشرنا، فنحتاج إلى أن نتتبع صور بيع المواعدة الذي هو بيع المرابحة للآمر بالشراء الذي تجريه المصارف الإسلامية.