ما أكثر ما يخبرنا الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وآله وسلم بكثير من الأحداث التي تقع في هذا الكون وفي هذا الوجود ونحن لا نراها ولا نسمعها! لكن يكفينا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاطلاع على حقائق هذه العوالم الغيبية.
مثلاً: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من صباح إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم! أعط ممسكاً تلفاً).
ومن هذه الأحداث التي تقع في أول ليلة من رمضان ما أخبرنا به الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين) وهذا يقع ويحدث في أول ليلة من شهر رمضان المبارك، كذلك الذي صح -أيضاً- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة) وعند الإمام ابن خزيمة: (صفدت الشياطين مردة الجن) يعني أن الشياطين هم مردة الجن.
ونريد أن نقف طويلاً عند هذا الخبر العظيم، خاصة عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وينادي مناد: يا باغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر) فهذا أنسب شاهد لما نحن بصدده من الكلام على انقسام الناس وتباينهم عند استقبال رمضان مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4].
ففي هذا الحديث يبين النبي عليه الصلاة والسلام أن هناك من يبغي الخير في رمضان، وهناك من يبغي اقتراف الشر والصد عن سبيل الله في رمضان.
فمنذ بداية هذا الشهر يتكرر النداء العام ويختص بهذا الشهر (يا باغي الخير! أقبل) أي: أقبل فقد أعددت وخططت وتهيأت، وها هو قد فتح السوق، فمن أراد الغنيمة فلينتهز الفرصة، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن)، أو: (صفدت الشياطين مردة الجن) وتصفيد الشياطين في شهر رمضان يحتمل أن يكون المراد به تصفيد الشياطين الذين كانوا يسترقون السمع، ولذلك قال بعض العلماء: ألا تراه قال: مردة الشياطين.
يشير إلى قوله تبارك وتعالى: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:7]؛ لأن شهر رمضان كان وقتاً لنزول القرآن إلى سماء الدنيا، وكانت الحراسة قد وقعت بالشهب، كما قال عز وجل: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:8]، فزيد التصفيد في شهر رمضان مبالغة في الحفظ، وهذا أفاده الإمام الحليمي، والله تعالى أعلم.
ويحتمل أن يكون المراد من تصفيد الشياطين في زمان وأيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده أيضاً، والمعنى أن الشياطين في شهر رمضان لا يخلصون فيه من إفساد الناس إلى ما كانوا يخلصون في غيره؛ لاشتغال المسلمين بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن وسائر العبادات التي تهذب النفس وتزكيها، قال رب العزة جل وعلا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
فالحكمة من الصيام هي الوصول إلى تقوى الله تبارك وتعالى، وهذا أمر ملموس، وهذا من بركة هذا الشهر حتى على العصاة، فإنك تجد عند ابتداء شهر رمضان همة الناس في إصلاح حالهم مع الله وفي الصلح مع الله تزداد، فالمحسن يرغب في زيادة الإحسان والمسيء تجده مقبلاً على الخير، وآية ذلك أن تنظر إلى المساجد في أول ليلة من رمضان، بل انظر إلى المساجد في صلاة الفجر في أوائل رمضان، ثم انظر إلى طبيعة أسئلة الناس في أوائل شهر رمضان أو قبل قدومه بأيام، تجد أن كل إنسان يراجع نفسه ويقول: أنا أفعل كذا وكذا فهل لي من توبة؟ أنا أريد أن أفعل كذا وكذا ولكن يمنعني كذا وكذا؟ وتجد العصاة يريدون أن يقصروا عن الشر وأن يتوبوا وأن يصلحوا حالهم مع الله تبارك وتعالى.
ولذلك كانت مسئولية كل من يتبوأ مقام الدعوة في رمضان كما يصنع التاجر حين يغتنم الفرص حتى يروج سلعته ويفوز بالأجر العظيم ويغتنم الربح الوفير، فكذلك الداعية إلى الله عز وجل، وكل مسلم يجب أن يكون داعية إلى الله، فمن علم شيئاً عليه أن يدعو إليه، يقول عليه الصلاة والسلام: (بلغوا عني ولو آية).
فالواجب الاهتمام واغتنام هذه الفرصة العظيمة، فإن الناس يقبلون على الله سبحانه وتعالى أشد الإقبال، والشيطان قد توعد بني آدم -حسداً وحقداً- أن يفتنهم وأن يتفنن في إضلالهم، وأقسم في ذلك بعزة الله تبارك وتعالى، ومما يؤسف له -إذا نظرنا إلى واقع الناس عموماً على ظاهر الكرة الأرضية وإلى واقع المسلمين خصوصاً- أن إبليس وفى بقسمه وبر بعهده.
فانظر وقارن بين أولياء الرحمن وبين أولياء الشيطان، تجد أن جنود إبليس في أجهزة الإعلام يحتشدون ويتجهزون لحرب الدين وأهله، وكأن الشيطان يبعثهم سرايا حتى يضلوا الناس ويضيعوا عليهم هذه الفرصة ويغلقوا عليهم هذه الرحمة الواسعة، وذلك بصدهم عن المساجد وإشغالهم باللهو والفسق والفجور، وصدهم عن طريق الله وقطع الطريق إلى الله عز وجل على عباد الله، وقارن بين الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى هل بروا بالعهد الذي أخذه الله عليهم كما بر أولياء الشيطان وكما بر إبليس بعهده فتفنن في إضلالهم؟! إذاً: ينبغي الاعتناء باغتنام فرصة إقبال الناس على ربهم تبارك وتعالى، وينبغي تفويت الفرصة على أعداء الدعوة الإسلامية وعلى قطاع الطريق إلى الله الذين ينتهزون مواسم الخير ليعكروا صف المسلمين، وليمزقوا وحدتهم، وليحدثوا فيهم البلبلة والتشكيك، وكأن رمضان صار موسماً للمشكلات من أوله إلى آخره.
فعلى الإخوة جميعاً أن يهتموا بهذا الأمر، ويجتهدوا في تفويت هذه الفرص على أعداء الدعوة.
قوله: (ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة) نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.