ما هي الضوابط التي تحكم الإنسان إذا صال أو اعتدى معتد على شيء من هذه الأشياء المحترمة؟ لقد خصص لهذا الدكتور وهبة الزحيلي فصلاً مستقلاً في رسالته: (نظرية الضرورة الشرعية مقارنة مع القوانين الوضعية) وهو أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية الشريعة والحقوق، ورئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه في جامعة دمشق سابقاً.
يقول -حفظه الله تعالى- في هذا الفصل الذي وضح فيه شروط وضوابط قضية دفع الصائل: إذا اعتدى إنسان على غيره في نفس أو مال أو عرض، أو صالت عليه بهيمة -لأن العدوان لا يشترط فيه أن يكون من إنسان، فقد يكون من بهيمة- فللمعتدى عليه أو لغيره أن يرد العدوان بالقدر اللازم لدفع الاعتداء حسب تقديره في غالب ظنه، مبتدئاً بالأخف فالأخف إن أمكن، فإن أمكن دفع المعتدي بكلام، واستغاثة بالناس، حرم عليه الضرب.
يعني: إذا كنت تستطيع أن تدفعه برفع الصوت وطلب المعونة من الناس والاستغاثة بهم فيما يقدرون عليه من معاونتك على ذلك فيحرم عليك أن تتدرج إلى مرحلة أشد وهي الضرب والقتل، ويجب عليك أن تفعل ذلك فقط، فإذا كان يندفع بضرب اليد فيحرم عليك استعمال السوط، وإن أمكن الدفع بالسوط حرم استعمال العصا، وإن أمكن الدفع بقطع عضو حرم القتل؛ لأن ذلك جوز للضرورة استثناءً من قاعدة: (الضرر لا يزال بالضرر)، وأصل هذه القاعدة حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار) أي: نهى عن أن يضر الإنسان الآخرين ابتداءً، ونهى عن أن يقابل إضرارهم بإضرار، فأخذ من هذا الحديث قاعدة أن الضرر يزال، ثم صرح العلماء بأن الضرر يزال لكن بدون أن توقع ضرراً، ولنفرض أنه لابد من وقوع ضرر واضح، ففي حالة وقوع ضرر ومنفعة فالضرر يقدم على جلب المنفعة، وإذا كان هناك احتمال أن يحصل ضرران لكن أحدهما أشد من الآخر، فيرتكب الضرر الأخف دفعاً للأشد.
إذاً: الضرر يزال لكن لا بضرر، فإن كان لابد من ضرر فيختار أخف الضررين.
وليس هناك ضرورة تلجئك إلى أن تستعمل الأخطر والأشد مثل قطع العضو وأنت تستطيع أن تدفعه بالضرب، ولا ضرورة في اللجوء إلى الأثقل مع إمكان تحصيل المقصود بالأسهل، فمادام أنه يمكنك أن تدفع عن نفسك أو مالك أو عرضك بالشيء الأسهل فلا تنتقل إلى ما هو أشد منه وأثقل، فالدمع بالأشد إنما يصبح في حال الضرورة، وليس ضرورة كونك تستطيع دفعه بما هو أخف.
يقول: ومن المعلوم أن الضرورة تقدر بقدرها، حتى إنه إن تمكن المعتدى عليه أو المصول عليه من الهرب أو الالتجاء بحصن أو جماعة فيجب عليه ذلك عند الشافعي، وفي وجه عند الحنابلة، ويحرم قتال المعتدي أو الصائل بحيث إذا كان يحرز نفسه أو أهله أو ماله في مكان فلا يناله هذا الصائل، والشافعية يوجبون عليه أن يلتجئ إلى هذا المكان، ولا يدفعه بالقتل أو غيره، وهو وجه عند الحنابلة؛ لأن المعتدى عليه مأمور بتخليص نفسه بالأهون فالأهون، وبما أن الهرب ونحوه أسهل من غيره فلا يلجأ إلى الأشد.
قال العز بن عبدالسلام رحمه الله تعالى: (إذا انكف الصُوال عن الصيال حرم قتالهم وقتلهم) والصيال: مأخوذ من قولهم صال الفحل صولاً وصيالاً: إذا وثب البعير عل الإبل يقاتلها، فمن يعدو على الناس ويقتلهم يقال له صائل، يقول العز رحمه الله: (إذا انكف الصوال عن الصيال حرم قتالهم وقتلهم) فمادام أنهم توقفوا عن العدوان على الدم أو النفس أو المال أو الأرض فإنه يحرم قتلهم وقتالهم.