ثم يقول: وصف الله المؤمنين بقوله الحق: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] وألزم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهو المؤيد بوحيه ألا يفارق الشورى في كل شأن هام فقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] وقد استمرت مسيرة المجتمع المسلم في صعود حتى أسقطوا هذا المبدأ من حياتهم، فباتوا عرضة لتقلبات الأهواء، يتخذهم المستفزون مطايا لشهواتهم، حتى انتهوا إلى التخبط في الظلمات، والشيخ الذي أخذ نفسه بأدب الإسلام عزائمه ورخصه ما كان أبداً يتخلى عن مبدأ الشورى في أي شأن يقتضيه، وقد شاء الله أن أصحبه في مجلس الجامعة عدداً من الاجتماعات، فقيض لي أن أشهد من فضائله -وبخاصة في هذا الجانب من خلقه- ما لا يصح إغفاله من أي ترجمة تكتب عنه، أول ما نواجهه من فعل الشيخ في هذه المجالس ذلك الأنس الذي يشيعه في نفوس الأعضاء، لسؤاله كلاً منهم عن حاله وصحته، ووقوفه على ما سمع من الأنباء العالمية وأحوال المسلمين، فإذا ما بدأ النظر في جدول الأعمال أخذ بكل منها على حدة، فعرضت المناقشة وأعطى كل عضو رأيه فيها، فإذا انعقد على وجه منها بالإجماع أثبت ذلك في المحضر، وإلا طرح كلاً من الوجوه المختلفة للتصويت، وتقرر في شأنها الوجه الأجمع للأصوات، وكثيراً ما يكون هذا الترجيح مخالفاً لرأي الشيخ، ولكن ثقته بأعضاء المجلس، والتزامه بمبدأ الشورى، ينتهيان به إلى الرضا التام بكل ما تم.
وذات ليلة احتدم النقاش حول إحدى القضايا المطروحة، وتباينت الآراء فيها، وكأني بالشيخ خشي أن يكون في إبدائه وجهة نظره إحراجاً للآخرين فقال بلهجة ملؤها الود: أرى -يا إخوان- أن يأتي رأيي ورأي نائبي آخر الآراء؛ لئلا يكون في ذلك حرج لكم! وهذا مسلكه أيضاً في كل شأن يتسع للتساؤل، حتى القضية التي يسأل بها في الفقه -وهي من صميم اختصاصه- فيناقشونه الرأي فيها على ضوء النصوص الواردة في شأنها، حتى يطمئن قلبه إلى الوجه الأمثل، وقد يعترضه الأمر فيه الإبهام فيطرق ملياً يتأمله في صمت، ثم يدلي برأيه أو يقول لمن حوله ممن يثق به: أشيروا علي.
وهذا الرجل السهل السمح الحليم، محب الفقراء، سرعان ما ينقلب أسداً لا يرده عن إقدامه شيء إذا علم بظلم يقع على المسلمين، أو عدوان على شريعة الله عز وجل، إن مسلك الشيخ في هذه الناحية هو مسلك العالم الإسلامي الذي يوقن أنه مسئول عن حماية محارم الله، والدفاع عن حقوق أهل الإسلام بكل ما يملك من طاقة، وبدافع من الشعور الكامل بهذه المسئولية يتتبع أحوال العالم الإسلامي، فلا ينال المسلمين خير إلا فرح به، ولا يمسهم سوء إلا اضطرب له، ويرتفع غضبه إلى القمة حين يتعلق الأمر بدين الله، لذلك تراه أسرع العلماء إلى إنكار البدع؛ لأنها بنظره عدوان على حقائق الوحي، وتغيير لدين الله، وفي النهاية هي إبعاد للمسلمين عن جادة الإسلام.