أخيراً: نختم برأي الغزالي رحمه الله وعفا عنه في الجنة وأهلها.
فيرى الغزالي أن للعارفين مقاماً يجاوز مقام الجنة، أي أن العارفين لهم مقام أعلى من مجرد الدخول إلى الجنة، وهو مقام مجالسة الرحمن الدائمة.
هذا المقام لا يناله عموم الناس وهم عوامهم، وإنما هو لخواص الناس من العارفين.
وكل هذا الانحراف سره اعتماده على أثر ضعيف من الآثار السيئة والأحاديث الضعيفة، حديث ضعيف يقول: (أكثر أهل الجنة البله، وعليون لذوي الألباب)، كان الناس إذا رأوا رجلاً معتوهاً فيقولون: هذا ولي من أولياء الله، وبمجرد أن يموت يبنون على قبره قبة، ويقولون للناس: إن هذا من أولياء الله، وأنتم لا تعرفون ذلك، هؤلاء لهم أسرار وكذا وكذا، ويفترون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (أكثر أهل الجنة البله، وعليون لذوي الألباب)، ومن هنا يستطيع الإنسان أن يتصور إلى أي مدى تعتبر الصوفية خطراً على الإسلام ومفاهيم الإسلام.
يقول الغزالي: فمن كان حبه في الدنيا رجاء نعيم الجنة والحور العين، مكن من الجنة يتبوأ منها حيث يشاء، فيلعب مع الولدان ويتمتع بالنساء، فهناك تنتهي لذته في الآخرة، فالأبرار يرتعون في البساتين وينعمون في الجنان مع الحور العين والولدان، والمقربون ملازمون للحضرة عاكفون بطرفهم عليها، يستحقرون نعيم الجنان بالإضافة إلى ذرة منها، فقوم بقضاء شهوة البطن والفرج مشغولون وللمجالسة قوم آخرون، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثر أهل الجنة البله).
والحديث -كما سبق- ضعيف.
أرونا إثبات رؤية الله في الآخرة؟ أين مرتبة إثبات رؤية الله في الآخرة لأهل الجنة؟ التي يدافع عنها الغزالي ويرد على المعتزلة في تفسير قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، فأهل الجنة يرون ربهم؛ لأن الإنسان بدن وروح، فنعيم البدن نعيم حسي، ونعيم الروح هو أعظم هذا النعيم، وهو الذي يأخذ كل لذات الجنة وهو رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة، فليس هناك تعارض أن يتم النعيم لهم من كل الوجوه، وأن يكون أرقى وأعظم هذه المقاصد هو رؤية الرب سبحانه وتعالى في الآخرة؛ فهو يقول: إن تناولهم لشهوات البطون والفروج يلهيهم عن إبصار جمال الله وجلاله الذي هو خاص بالمقربين فهذه الآية لها هذا الكلام، وهو يعلم عقيدة أهل السنة في إثبات رؤية الله في الآخرة، خاصة وأنه أطال في الرد على المعتزلة في إنكارهم الرؤية.
يقول الغزالي: وأما العارف إذا انفتح له ثمانية أبواب من أبواب جنة المعارف، يعني أن هناك جنتين: جنة البله وجنة المعارف، وجنة المعارف لها ثمانية أبواب غير أبواب الجنة الثمانية.
فيقول: وأما العارف إذا انفتح له ثمانية أبواب من أبواب جنة المعارف، واعتكف فيها، لم يلتفت أصلاً إلى جنة البله، وإياك أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير فتكون من جملة البله.
إذاً: البله هم الذين يريدون النجاة الفوز بالجنة والنجاة من النار.
يقول: ولا تظن أن روح العارف من الانشراح في رياض المعرفة وبساتينها، أقل من روح من يدخل الجنة التي يعرفها ويقضي فيها شهوة البطن والفرج، وأنى يتساويان! بل لا ينكر أن يكون في العارفين من رغبته في فتح أبواب المعارف لينظر في ملكوت السماء والأرض أكثر من رغبته في المنكوح والمأكول والملبوس.
وخلاصة الكلام يقول: فإن كنت ترى مشاركة البهائم لذاتها، أحق بالطلب من مساهمة الملائكة في فرحهم وسرورهم بمطالعة جمال حضرة الربوبية، فما أشد غيك وجهلك وغباوتك.
يقول: اعلم أن هذه الشهوة خلقت في العارفين ولم تخلق لك، كما خلقت لك شهوة الجاه ولم تخلق للصبيان، وإنما للصبيان شهوة اللعب.
فأقول: أين هذا الكلام من سلوك الأنبياء؟ لماذا لا ننضبط بضوابط الكتاب والسنة؟ أليس إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن وأبو الأنبياء يدعو الله سبحانه وتعالى ويقول: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء:85]؟ والأنبياء كلهم كانوا يطلبون الجنة، فالصوفية اخترعوا مفاهيم أجنبية عن الإسلام، يحكون عن رابعة العدوية أنها مشت وفي يدها اليمين ماء وفي يدها الشمال نار، فقالوا: أين تذهبين يا رابعة؟ قالت: أنا ذاهبة إلى الجنة والنار، سوف أطفئ النار بهذا الماء، وأحرق الجنة بهذه النيران، حتى أفني الجنة والنار، حتى لا يعبده الناس خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، ولكن حباً فيه! فهذه المفاهيم أجنبية، مفاهيم دخيلة على دين الإسلام، وليست من الإسلام في شيء، فهم يقتبسون تارة من النصارى والرهبان، وتارة من اليهود، وتارة من البراهمة والهنادسة والوثنيين، فهذه الأشياء كلها من الفلاسفة، ومن المتكلمين، ومن الباطنية الملاحدة وهكذا، فدين الصوفية دين أجنبي عن دين الإسلام! الرسول عليه السلام رغبنا في أن ندعو الله عز وجل: (اللهم آت محمداً الوسيلة والفضيلة) إلى آخر الحديث، والوسيلة ذكر عليه الصلاة والسلام أن الوسيلة منزلة في الجنة، ورغب أمته في أن يدعوا الله سبحانه وتعالى أن يكون هو صاحب هذه المنزلة صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً: هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام أفضل البشر، أحوجهم لله وأحبهم لله، ومع ذلك كان يسأل الله الجنة، وقد ورد في الحديث: أن مريم وفاطمة رضي الله عنهما من سيدات نساء العالمين، و: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وورد أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير وسعد بن مالك وعبد الرحمن بن عوف مشهود لهم بالجنة، وبشر الله أهل بدر بالجنة، وكذلك وعد بالجنة الذين بايعوا تحت الشجرة، وأي الوعدين أعظم: وعد الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الأفاضل الكرام بالجنة، أم وعد الغزالي نفسه والصوفية بجنة المعرفة التي يعظمونها بجانب جنة الخلد التي وعد المتقون؟ أي قيمة تحصل لهذا الوعد الإلهي إذا كانت هذه الجنة مخصوصة بالبله الذين ليس لهم هَمٌّ إلا الأكل والتمتع، وأنهم يشابهون الأنعام كما يرمز الغزالي إلى ذلك؟ فمتاع الجنة عند الغزالي بهذه النظرة الصوفية مثل متاع الدنيا ينبغي أن يزهد فيه.
يقول بعض السلف: يا معشر الشباب! أكثروا من ذكر الحور العين حتى تتشوقوا إلى الجنة! فالشريعة تأمر بالحرص على متاع الجنة سواء في ذلك المتاع الحسي والمتاع الروحي، وهؤلاء الصوفية يوافقون الشريعة في الزهد في الدنيا، لكنهم يخالفونها في أنهم يطالبوننا بالزهد في فضل الله سبحانه وتعالى ورحمته في الجنة.
فهذه مناقضة للشريعة، وهذا فهم دخيل وأجنبي عما بعث الله عز وجل به رسله.
يقول الغزالي حاكياً عن ممشاد الدينوري قال: منذ ثلاثين سنة تعرض علي الجنة بملكها فما أعرتها طرفي! يعني: احتقاراً للجنة وزهداً فيها.
ويقول أيضاً: روي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: إلهي إنك تعلم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة في جنب ما أكرمتني من محبتك وآنستني من ذكرك.
وهكذا يأتون بعد تلك العبارة بكلام حسن من أجل أن تتقبلها وتشرب السم في العسل، وهذا كما يحكون عن رابعة العدوية أنهم قالوا لها: يا رابعة! هل تحبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله إني لأحبه غير أن حبي لله لم يبق في قلبي مكاناً لحب مخلوق سواه! وهل تتعارض محبة رسول الله مع محبة الله؟ وهذا الكلام لا يصح عنها رحمها الله، لكن هذا الكلام معتمد عند الصوفية ويبنون عليه دينهم.
وقيل أيضاً لـ رابعة العدوية: ألا تسألين الله الجنة؟ فقالت: الجار ثم الدار.
تقصد مجاورة الله أولاً ثم بعد ذلك تسأله الجنة.
وروي عن بعضهم قوله: من عبد الله لعوض فهو لئيم! سبحان الله! أي معارضة للقرآن والسنة مثل هذه التي تعرض في ثوب الزهد والتصوف؟! وكل هذه الأشياء موجودة في كتب الغزالي.