نحن الآن سندرس فكر أبي حامد الغزالي وكتبه، خاصة كتاب الإحياء، الذي هو بحق -كما ذكرنا- دستور التصوف، وكلاهما -الكتاب والمؤلف- ملآ أسماع الدنيا، وشغل الناس كثيراً، فـ أبو حامد الغزالي إمام بحر وعالم له مكانته، يعد من أذكياء العالم وأعاجيب الزمان، نال شهرة عظيمة، حتى لقب بحجة الإسلام.
هذه المكانة الرفيعة إلى جانب نبوغه وعبقريته وعلو همته، ليست محل منازعة بين الموافقين والمخالفين له على السواء، ولقد اجتمع في أبي حامد رحمه الله تعالى الذكاء الخارق، والعاطفة الجياشة، حتى كأنك إذ تطالع كتاباته تتعامل مع كائن حي، تحس فيه الحرارة المتقدة والوجدان الصادق، وتتنسم من خلال السطور عبير الإخلاص الذي كان همه.
لقد كان الإخلاص هم أبي حامد رحمه الله تعالى، حتى قال فيه الحافظ شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى: لولا أن أبا حامد رحمه الله من الأذكياء وخيار المخلصين لتلف.
وحتى إن رجلاً يقول للإمام أبي حامد رحمه الله وهو في سياق الموت: أوصني، فيقول له: عليك بالإخلاص، عليك بالإخلاص فلم يزل يكررها حتى فارق الحياة رحمه الله تعالى، ومع ذلك فإن أبا حامد كان من البشر، وواحداً من ولد آدم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، يقول تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى، وقد التقى به هنا في الإسكندرية: كان أبو حامد تاجاً في هامة الليالي، وعقداً في لبة المعالي، حتى أوغل في التصوف، وأكثر معهم التصرف، فخرج عن الحقيقة، وخرج في أكثر أحواله عن الطريقة، وجاء بألفاظ لا تطاق، ومعان ليس لها مع الشريعة انتظام ولا اتفاق، فكان علماء بغداد يقولون: لقد أصابت الإسلام فيه عين.