هناك مجال آخر من المجالات التي ينمو فيها هذا الإنسان أو هذا المراهق: وهو النمو العقلي، وهو في هذه المرحلة ملاحظ، وهذا التغير يشهد للإسلام، ولسبق الإسلام، وبأن هذا القرآن لا يمكن أن ينزله إلا خالق هذا الإنسان الذي هو أعلم بمن خلق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، لذلك نتعجب من آيات الله سبحانه وتعالى حينما نعرف أن الشرع ربط التكليف وعلامة التكليف بمجرد بلوغه كما هو معلوم.
هناك بعض أسئلة نستطيع من خلالها أن نجيب على أسئلة تتعلق بالنمو العقلي في المراهق.
منها مثلاً: ما الذي يدعو المراهق للاختلاف في الرأي مع والديه ومعلميه؟ ما الأسباب التي تجعله يناقش القضايا معهم، ويجادل فيها بعد أن كان مستسلماً في سن الطفولة؟ لماذا يريد المراهق التحدث والنقاش والمداولة؟ ولماذا ينزع إلى الاستقلالية؟ لماذا ينزع إلى محاولة الانفراد في اتخاذ القرار، خصوصاً فيما يتعلق بحياته الشخصية؟ بل لماذا يسفه أحياناً آراء الآخرين، ويتهمهم بالإجبارية وبمصادرة الآراء، أو يسمهم بالفردية والتحيز؟ ولماذا يعاند ويصر ويجابه؟ ولماذا يجنح في كثير من الأحيان إلى المثالية والصور النموذجية للحياة ويطالب بذلك؟ ثم ما أسباب ورود الأسئلة الملحة من المراهق؟ مثلاً: من أنا؟ ما هويتي؟ ما وظيفتي؟ ما هدفي؟ ما موقعي من الأسرة؟ ما موقعي من المجتمع؟ هل أنا طفل أو طفلة؟ هل أنا رجل أو امرأة؟ بل قد ترد أسئلة مثل: لماذا خلقت؟ ما هدف الحياة؟ ما نهايتها؟ وأسئلة أخرى عن الحياة والكون والإنسان أعمق من هذه وأشمل؛ لأنه الآن منتقل لمرحلة جديدة، عقله نما ولم يعد عقل ذلك الطفل الذي كان متعلقاً بالأمور المادية كما مضى.
لماذا تبرز مواقف الإباء ومقت التبعية؟ والاشمئزاز من المن والأذى وتظهر منه ألفاظ العزة والأنفة أحياناً، بل قد يلجأ بعض المراهقين إلى محاولة الانفصال، والبعد عن الهيمنة الأسرية، والاعتماد على النفس، أو على الأقل التظاهر بالقدرة على ذلك بل لماذا المجابهات بين الآباء والمراهقين والمتعلقة بكيفية الإنفاق، ومصادره، ومدى الحرية، أو التبعية فيه؟ ولماذا يفكر المراهق في ذاته، ودواخل نفسه، ويتأملها وينتقدها أحياناً بعد أن لم يكن كذلك؟ وكيف ينتقد هيئته وصفاته ويتفكر فيهما؟ هذه الأسئلة كلها تنم عن تحول مهم وجديد في تكوين المراهق من الناحية العقلية، فالتحولات والتغيرات العقلية والمعرفية تكمن فيها إجابة هذه الأسئلة الآنفة الذكر.
أيضاً يتحول من التفكير الفردي - حيث كان فيما قبل يفكر فقط في ذاته- إلى التفكير شبه الجماعي، ويتحول من التفكير الموجه خارجه فقط، إلى التفكير القادر على تأمل الذات، كذلك يتأمل في المحيط الخارجي مع تأمله في ذاته في الوقت نفسه، كما أن المراهق والمراهقة تحولا عن التفكير السلبي القابل للتبعية إلى التفكير الإيجابي الباحث عن المسئولية، ومن التفكير الآني في اللحظة الحاضرة فقط إلى التفكير الآني والمستقبلي معاً.
القدرة العقلية في مرحلة المراهقة تشهد تحولاً نوعياً، حيث يبدأ الفرد بإدراك المجردات والمعنويات، بعد أن كان أسيراً للمادة لا تتضح له أشياء إلا بالتمثيل المادي، ولا يستوعب القضايا المطروحة استيعاباً صحيحاً إلا بعد اقترانها بالنماذج والأمثلة الموضحة.
فالمراهق يستطيع باستعداده العقلي أن يدرك المعاني والقيم إذا ذكرت أمامه مثل: الصدق والإخلاص، فيفهم معنى الصدق، ومعنى الإخلاص، أما في الطفولة الأولى فلا يستطيع أن يعي هذه الأشياء.
فالصدق والإخلاص والأمانة والوفاء والنبل والعزة والكرامة وصفات الحرية والعدل والمسئولية، كل هذه القيم يستطيع أن يدركها ويفهمها، ويستطيع أيضاً إدراك الأبعاد المتعددة للقضية الواحدة في وقت واحد، والنظر للأمور نظرة شمولية يصفونها بنظرة عين العصفور! لأن العصفور وهو يطير يطلع على أبعاد المنطقة التي يطير فوقها كلها، بخلاف الشخص الذي يمشي ويرى أمامه جزءاً واحداً فقط.
ويكتسب المراهق قدرة على تصور الموقف وتخيله، فمثلاً: يستطيع أن يتصور ويتخيل مكاناً معيناً يريد أن يصل إليه من عدة طرق دون أن يكون قد سلك هذه الطرق من قبل؛ فنمت لديه القدرات العقلية والتخيل حتى وصل لهذا النضج.
ويتمكن أيضاً من التحكم في البدائل المتعددة للوصول إلى حل المشكلة، واختيار أي هذه الحلول أنفع، كما أنه يستطيع عندما يقع في مخالفة لا يرضى عنها والده أن يتصور الموقف المنتظر بأبعاده، ثم يفكر في الأوجه المتعددة للحل، وما يترتب على كل وجه، ويقوم بعملية الاختيار؛ وهذه الملكات كلها لم تكن موجودة في السنين الماضية.
مثلاً: إذا عرضت عليه قضية الفراغ، وأسباب الفراغ، وكيفية استغلاله، بإمكانه أن يفهم ما معنى كلمة الفراغ، ويتصور أسبابها، والكيفيات المحيطة بها؛ بخلاف الأطفال، إذا أتيت طفلاً وقلت له: اكتب موضوعاً أو تحدث عن الفراغ وأسبابه، وكيف يستغل وقت الفراغ؟ فكثير من الأطفال قد لا يدركون جميع أبعاد مثل هذه الكلمة إلا إذا وضحت لهم، وضربت لهم الأمثلة؛ فضلاً عن أسباب الفراغ وكيفية استغلاله.
وتميز المراهق عمن دونه بالقدرة على التفكير المعنوي، والتصور والتخيل، مما يساعده على تفهم القضايا، ووضع الحلول للمشكلات حتى قبل حدوثها، وهذا هو الذي يجعل المراهق يعي المعاني والقيم ويستطيع تفهمها.
هذا هو الأصل في المراهقين؛ لكن المشكلة أن الخجل الذي يشعر به المراهق قد لا يمكنه من أن يظهر كل إمكانياته، ولذلك إذا وجد الوالدان أو البيئة التي تستطيع أن تستخرج كوامن هذه المواهب فيه فسوف ينضج نضوجاً مبكراً، بخلاف ما إذا بقي أبوه يقول له: لا تشتر كذا لأنك غير قادر، فيحطم فيه الثقة بالنفس، ولذلك فإن هدفنا من هذه الدراسة أن نفهم أن المراهقين غير مرتبطين بالمشاكل، ولا نتصور القضية على أن الأب في جانب والابن في جانب وكلاهما يحارب الآخر، فنحن نريد من الأبوين أن يقفا وراءه ليساندانه ويدعمانه ويوجهانه، وليس المقصود أن يقتلا طاقاته، أو يحطما الثقة في نفسه كما يحصل للأسف الشديد عند الكثير من الآباء.
من فطرة الله عز وجل أن المراهق يستطيع أيضاً في هذه المرحلة أن تتجاوز تساؤلاته الإطار المادي القريب إلى الأبعاد المعنوية النفسية الكونية، فهو يفكر في معنى الحياة، وأهداف الحياة، وخلق الكون، والنفس، وأسباب هذا الخلق، ويستطيع إدراك المعاني المرتبطة بذلك، وهو في نفس الوقت يبحث عن هويته وموقعه ممن حوله، ووظيفته الاجتماعية إلى غير ذلك من الجوانب المحتاجة إلى هذا النوع من التفكير التجريدي في المعاني.
ورغم ما تمنحه خاصية التفكير المجرد والتصور التخيلي للمراهق من سعة أفق، كذلك يقدر على التعامل مع البيئة بكل أبعادها، ويقدر على فهم المعاني والمجردات على وجه حقيقي.