أتلو عليكم الآن تجربة ذكرها بعض الخبراء النفسيين، يقول بعض هؤلاء: يعامل الكثيرون من الآباء أبناءهم معاملة تكاد أن تكون واحدة في مختلف عمرهم، وهم بهذا لا يتبينون أن الطفل بتقدمه في العمر تتغير ظروفه الجسمية والنفسية، وهذا التغيير يستلزم تعديلاً في المعاملة التي يلقاها، وإلا فإن استمرار نفس المعاملة الطفلية الأولى قد يؤدي به في النهاية إلى التعبير عن نفسه بصور شتى قد تكون غير مرغوب فيها.
قال صديقي: لقد بدأت ألاحظ أن سلوك ابني إبراهيم أخذ يتغير عما كان عهدي به من قبل، فبعد أن كان صبياً مطيعاً أخذ يظهر التمرد وعدم الانصياع لأوامري، بل لعله في بعض الأحيان يصبح عدوانياً، فيسيء إلى إخوته بالضرب مثلاً، وإذا نزل ضيوف ببيتنا احتل مقعداً كبيراً بينهم، وأخذ يجاذبهم أطراف الحديث كما لو كان رب الأسرة أو شخصاً بالغاً متقدماً في العمر، وليس طفلاً في الخامسة عشرة -هذه هي الشكوى- ومع أني نهرته مراراً على أن لا يفعل هذا، وأن يبقى مع إخوته الصغار، إلا أنه لا يلبث أن يعود إلى سلوكه هذا، فيجعل من نفسه رفيقاً لضيوفنا من الأصدقاء أو الأقارب، وأقول لك الحق: إني بدأت أضعه تحت ملاحظة دقيقة، وحاولت أن أحصي حركاته وتصرفاته، فتبين لي تبدل كبير في أسلوبه وفي نمط حياته، فقد أخذ يهتم بملبسه وأناقته بشكل لم يعودنا إياه من قبل، وهو يمضي الساعات أمام المرآة يمشط شعره، ويحكم رباط عنقه الذي تنازلت له عنه مجبراً بعد إلحاح طويل من جانبه، بل لقد اكتشفت ما هو أسوأ من هذا وذاك، فقد شاهدته بالقرب من المنزل يدخن سيجارة وضعها بين شفتيه بطريقة عجيبة لا تدل على أنه من مدمني التدخين، وإنما توحي فقط بأنه معجب بنفسه وبالسيجارة بين شفتيه، وقد كظمت غضبي ولم أتصرف معه أي تصرف قبل أن أستشيرك وألتمس منك النصح والمعونة، وحتى أوفر عليك بعض المتاعب: قمت من جانبي بالبحث عما إذا كانت هناك عوامل معينة دفعت به إلى هذا السلوك، كأن يكون قد تعرف على أصدقاء فاسدين أو غير ذلك، لكني لم أتمكن من الانتهاء إلى أي سبب من هذه الأسباب؛ فأصدقاؤه لم يتغيروا، ولم يحدث أي طارئ على ظروفه في المنزل أو المدرسة، فما هو السر إذاً في هذا السلوك؟ وهل لك أن تكشف لي عما استعصى علي فهمه؟ فقلت له: أريد أن أذكر لك أولاً أن اهتمامك بما طرأ على ابنك إبراهيم من تغيرات إنما هو تصرف حميد ينبغي أن يتبعه كل الآباء، وبأن يكونوا حريصين على ملاحظة كل تغيير يطرأ على أبنائهم، ومحاولة فهمه، وتناول الأسباب التي أدت إليه، وفي هذا النوع من العلاج المبكر الذي قد يقي الطفل شر مضاعفات لا نعلم مداها، والتي قد لا تستجيب للعلاج بسهولة مستقبلاً إذا تركت بدون اهتمام واستفحل أمرها.
وفيما يختص بحالة ابنك بالذات؛ فإن ما وضحته لنا من ظروف يوحي بأن السبب فيما بدا لك من سلوك شاذ، والذي قد لا يكون شذوذاً بالمرة، مرجعه إلى أن إبراهيم يمر بمرحلة يسميها علماء النفس: مرحلة المراهقة -طبعاً مع التحفظ من قوله: قد لا يكون شذوذاً بالمرة- فهو كما ذكرت في الخامسة عشرة من عمره، ومعنى هذا: أن هناك تغيرات حيوية هامة تعتري هذا المراهق الصغير تغيرات جسمية ونفسية وبيولوجية، وغير ذلك من تغيرات تجعل منه شخصاً جديداً غير ذلك الطفل الذي عرفته قبل أن يدخل هذه المرحلة، ويترتب عليها تغيرات في علاقته بأسرته وبالمدرسة وبجماعة رفاقه، واتجاهاته نحو المجتمع وغير ذلك، هذه الاتجاهات لا بد من دراستها وفهمها فهماً جيداً حتى لا نسيء إليه بتفسيرنا لسلوكه تفسيراً قد لا يتفق مع الواقع، وحتى نتمكن من التعامل معه وفقاً لهذه الاتجاهات.
ومن أهم مشكلات المراهق: ما يتعلق بعلاقاته ببالغين وبصفة خاصة بوالديه، ورغبته في التحرر من سلطان البالغين للحصول على ما لهم من مكانة واستقلال، وعلاقة المراهق بالبالغين مشكلة تتطلب ليس فقط قبولاً لرغباته ودوافعه، بل تتطلب -من جانبه- أيضاً قدراً من قبوله لإشراف الآخرين وقبول آرائهم.
كل هذه المشاكل تتبلور حول الواقع الذي يحرره كون المراهق فرداً يقترب من الوصول إلى أقصى درجات النضوج، ويمر من الطفولة إلى البلوغ، وهو أحياناً أقرب ما يكون إلى الطفولة منه إلى البلوغ، وأحياناً أخرى يكون أقرب إلى البلوغ منه إلى الطفولة، مع أنه في الواقع لا هو هذا ولا هو ذاك.
ومن المألوف في حضارتنا وفي تقسيماتنا ألا نقول بما هو وسط، فمثلاً قد نقسم الأفراد إلى بالغ وطفل، وقد نقسم الأطفال إلى خير وشر، إلا أنه من الناحية العملية فإن الأمور ليست بمثل هذه البساطة، فمثلاً في حالة المراهقة غالباً ما نواجه أفراداً لا يمكن وصفهم في أي من هاتين الفئتين؛ لأن في ذلك تداخلاً، لأنه يمكن أن ينضج جسمه لكن عقله لم ينضج اجتماعياً أو انفعالياً، والعكس ممكن.
والمراهق باعتباره مزوداً برغبات الفرد البالغ التي تهدف إلى الاستقلال، وإلى درجة من التلقائية، فإنه يواجه بالحقيقة المرة، وهي أن الكبار يفسرون دوره بدور طفل، ويفرضون عليه الاعتماد الطفلي، ونتوقع منه أن يطيع والديه، وعليه أن يذهب إلى المدرسة، وأن يحترم علاقته بالمدرسين، وهي علاقة طفل ببالغ لا شك فيها، وبهذا فإننا ننكر عليه مكانة البالغ ومسئوليته في المجتمع، كما أن دوافعه وحياته الاجتماعية يسودها الكف؛ وفوق كل شيء فهو معتمد باستمرار على البالغين، ويجب عليه أن يتقبل مكانته منخفضاً، وأن ينفذ ما يفرض عليه من أوامر، وهكذا فإنه قد يحاول أحياناً حتى بطريقة سافرة أن يحارب في سبيل الحصول على مكانته والاعتراف به، ومن ثم يمكن اعتبار الرغبة والصراع السافر للاستقلال أموراً طبيعية في حياة المراهق، يعني: أنها مرحلة مؤقتة.
قلنا: إن المراهق يرغب في أن يحرر نفسه من إشراف الكبار، حتى يتخذ ما يعتبره حقه ومكانه الطبيعي في الحياة، وتسمى عملية الاستقلال عن الوالدين، وعن إشراف البالغين الآخرين، وإحلال الاعتماد على الذات والكفاية الذاتية محلها؛ هذه العملية تسمى: الفطام النفسي.
ولا تتوقف آثار عملية التحرر على المراهقة فقط، بل قد تمتد نتائجها خلال باقي حياة الفرد البالغ، فالمراهق قد يجاهد في سبيل الاستقلال بدون أن يحصل على ما يبتغيه، ولا تحدث له عملية الفطام النفسي؛ وعندما ننكر عليه الاستقلال ويتأخر تحقيقه مدة كافية؛ فإن المراهق قد يتقبل عدم الفطام، وبالتالي قد يفضله، وعلى هذا فمن الشائع أن ترى شخصاً ينبذ الاستقلال بشدة، ويجد نفسه غير قادر على التكيف مع العالم بدون حماية والديه، فبعض الآباء يجدون من الصعب أن يسمحوا لأطفالهم بالنمو مستقلين، ويحاولون أن تستمر علاقاتهم بأبنائهم على مستوى علاقة أب بطفل؛ وإذا استطاع الآباء بمرور الزمن السيطرة على مقاومة الأبناء، وأن يغرسوا فيهم عادات إذعان لسلطانهم، فبالتالي يجد المراهق بمرور الزمن أنه من الصعب عليه الانفصال، ثم يصبح من المريح له قبول الرعاية بدون الحاجة إلى الصراع والمنافسة في هذا الوضع، وتصبح رعايته ذات أهمية بالغة بالنسبة له.
لا يعني هذا أن المنزل أو المدرسة ينبغي أن يمتنعا عن فرض أي نوع من الكف أو الضبط، فنحن نريد أن نتفهم سبب هذه الظواهر، لكن هل يعني هذا أن يترك له الحبل على الغارب؟ لا! فلا بد من الكف والضبط، لأن المراهق لا زال محتاجاً بالفعل إلى توجيه ومساعدة، لكن ينبغي أن لا تقتصر وظيفة كل من المنزل والمدرسة على المساعدة فقط، بل لهما وظيفة الحماية والضبط، لكن، فما الوسيلة المستخدمة للتوجيه؟ إن المنزل والمدرسة الصالحان هما اللذان يتعرفان على حاجات المراهق للاستقلال وصراعه في سبيل التحرر، ثم يساعدانه ويشجعانه كلما أمكن ذلك، وهما يهيئان له الفرص والوسائل كي يحاول الوصول إلى مكانة مستقلة، ويشجعانه في تحمل المسئولية، ووضع القرارات، وخطط المستقبل، وبصفة عامة اتخاذ موقف البالغ في وقت مبكر كلما أمكن ذلك.
وهذا يتوقف على النمو في كل الاتجاهات وليس فقط النمو الجسمي، ولذلك نجد أن السلف الصالح والكثير من العلماء كانوا في سن مبكرة من حياتهم يعتادون الخروج للرحلة في طلب العلم، وإذا كان الشخص في بداية المراهقة يخرج مغترباً، ويلاقي العقبات والمشاق في سبيل طلب العلم؛ لا شك أن هذه علامة على النضج الاجتماعي المبكر، فبالتالي استطاع أن يستقل بحياته، أما مع هذه الأساليب المعاصرة فلا يمكن أن يستقل بحياته.
على أن المراهق لا يتصرف تصرف الراشد مائة في المائة، ولا يتم ذلك دفعة واحدة، بل هو نتاج سنوات من الاستقلال التدريجي والاعتماد على الذات؛ فالأسرة التي تتجه هذه الوجهة إنما تهيئ للمراهق فترة سهلة غير حافلة بالمشكلات والصعوبات، وأفضل شيء للأب أن يصل إلى مرحلة يكون فيها صديقاً لابنه، كي يستطيع توجيهه، ويكتسب ثقته، وبالتالي يذعن له عن قناعة، ويسلك معه مسلك الإقناع وليس مسلك الثكنة العسكرية، أو مركز البوليس والشرطة، أو أن الواجب أن تنفذ، فالإقناع والتوجيه السديد هو الأكثر فعالية.
على أن إعطاء المسئوليات لا ينبغي أن يتم عفواً وبمحض الصدفة، بل لابد أن يكون نتيجة تصميم دقيق من ناحية الوالدين، فلا بد لهما أن يسألا: متى نستطيع أن نسمح له بأن يفعل هذا أو ذاك؟ ما هي الفرص التي نستطيع أن نمده بها، والتي سوف تسمح له بأن يتصرف مستقبلاً، وأن يكتسب خبرات تدعم نضوجه واعتماده على نفسه؟ وهناك إشارة في القرآن إلى هذا: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، إلى قوله: {لا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]؛ فقد يبلغ الولد الحلم لكنه سفيه لم ينضج من الناحية العقلية، بحيث إذا مكنته من ميزانية الأسرة مثلاً بددها تماماً كما يبددها الطفل؛ لأنه ما نضج النضج الذي يؤهله لذلك؛ فهذه إشارة قرآنية إلى مراعاة هذا الجانب: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، وهذا يتفاوت من شخص إلى آخر، لكن يمكن ذلك على سبيل الاختبار بأن يقف الأبوان خلف المراهق في هذه المرحلة ليساندانه ويدعمانه ويفيدانه بخبراتهما مت