بسم الله الرحمن الرحيم ولي المتقين.
الحمد لله رب العالمين الذي لا يهدي كيد الخائنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قاصم ظهر الماكرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد ولد آدم أجمعين.
اللهم! صل وسلم عليه وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنه في حال انفتاح ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (قبل الساعة سنوات خداعة يُصدّق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويُخون فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرويبضة.
قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة).
وما أخبر به صلى الله عليه وسلم في قوله: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا).
فبقى الذين إذا يقولوا يكذبوا ومضى الذين إذا يقولوا يصدقوا وفي حال انفتاح ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في قوله: (سيأتي قوم يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم) وفي حال غياب رءوس أهل العلم حيناً، وقعودهم عن تبصير الأمة أحياناً، وفي حال تداعي الأمم علينا من كل أُفق، إلى غير ذلك مما يعيشه المؤمنون في قالب هذه الأزمات، خصوصاً الأزمات الفكرية الغثائية الحاسة التي أفقدتهم توازنهم وزلزلت كيانهم، كل بقدر ما علّ من هذه الأسباب ونهل، فصار الدخَل، وسار الدخن، وضعفت البصيرة، ووجد أهل الأهواء والبدع مجالاً فسيحاً لنشر بدعهم ونثرها، حتى أصبحت في كف كل لاقط، فامتدت من المبتدعة الأعناق، وظهر الزيغ، وعاثوا في الأرض الفساد، وتجارت الأهواء بأقوام بعد أقوام، إلى غير ذلك من الويلات التي يتقلب المسلمون في حرارتها، ويتجرعون مرارتها، إذا بسرب من المبتدعة يحاولون اقتحام العقبة لتكثيف الأمية الدينية وزيادة غربة الإسلام بين أهله، وهذا ممن يدعي العلم، وهو عارٍ عنه، وقد تزّيا بزيّ أهله، وراج سوقه على بعض العوام بما يلفقه من الأكاذيب والأوهام، ورأى حينما خاطب هؤلاء الأغمار الرعاع أنه لا معارض له من أولئك، كما يتكلم المتكلم بين المقابر بما شاء من الكلام، حتى تخيل بذلك أنه من العلماء الأعلام، ولو بقيت بدعته حديثة الأدراج أو الأوراق لهان الأمر، ولكان من الخطأ الرد عليها وتنبيه المسلمين إليها؛ لأنه إشهار لفكرة تكون قد ماتت في مهدها، ولفت لأنظار المسلمين لينظروا في بيتها.
ادعى هذا الرجل دعوى لو قالها قائل لـ عمر لهاجت سِرَتُه، ولبادرت بالجواب درّته، دعوى لا تقوم على قدمي الحق، ولا على قدمي باطل وحق، دعوى لا تستحق النظر فيها فضلاً عن الاشتغال بالرد عليها، ولكن لأن لكل ساقطة لاقطة، ولأن له صديقاً حميماً أشرف في نصرة بدعته، وفتح له باب جريدته، ونشر فيها إفكه وضلالاته كان السكوت على مثل هذه الضلالة يعرض كثيراً من الأبرياء للانزلاق من ورائه والتأثر بأباطيله، فهذا كله أوجب الرد عليه، والكشف عن افتراءاته؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] وفي ذلك -أيضاً- فائدة للباهت المفتري نفسه، وهي احتمال أن يعود إلى رشده، وأيضاً- التقليل من أوزاره من جراء تقليل عدد المتورطين المضللين به، الذين سوف يحمل أوزارهم فوق أوزاره كما قال عز وجل: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13].
وقال عز وجل: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25].
وهناك كثير من الإخوة يرون أن مثل هذه الردود ينبغي أن توجّه جلساتها لنواحٍ علمية مجردة عن النقاش والأخذ والرد، مع أن غالب هؤلاء قد يلتبس عليهم الأمر نتيجة نشاط هؤلاء المبتدعة وإفساح وسائل الإعلام لهم، فلا يتبينون حقيقة ما اختلف فيه الناس فضلاً عن التمسك به والدعوة إليه، ومع ذلك كنا نتمنى أن لا نضيع الوقت في ذكر هذا، ولكن كثيراً ما تجري الرياح بما لا يشتهي الملاح.
أساء المبتدع وافترى، ونال من أخواتنا المحجبات ومن حجابهن، بل وصل الأمر إلى رميهن بالفاحشة، فعلى الأقل علينا أن ننتصر لهؤلاء الأخوات امتثالاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ يخذل امرأً مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال، وليس بخارج) وردغة الخبال -كما في بعض الروايات المفسرة- هي عصارة -أو عرق- أهل النار.
فردع المبتدع بالبيان واجب، خاصة أنه يتسلم مقام الاجتهاد والتجديد، حيث يدعي أنه مجتهد ومجدد، وبالتالي لا نأمل في أن ينفتح من الشر ما هو أكثر من ذلك، نعم تكون هذه الفقرات يجتمع بعضها إلى بعض فتسبب سيلاً من البدع والضلالات التي قد تتفتح عنها عبقريته، فردعه عن بدعته بالبيان واجب؛ حتى لا تتوالى الخطرات التي يزخرفها بدعوى الاجتهاد والتجديد، فتكون سيلاً على توالي الغفلات.
ولا نشك في أنه لو كان هناك سلطان شرعي يزع الله عز وجل به ما لا يزع بالقرآن لما كان لمثل هذا جزاء إلا التعزير والتأديب والحجر عليه، ومنعه من الكلام في الدين استصلاحاً للديانة وأحوال الجماعة؛ لأن الحجر على هؤلاء الجهال ألزم وأوجب من الحجر الصحي لاستصلاح الأبدان، والمبتدع إذا هُجر وزُجر بات كالثعلب في جحره، أما ترك تحسيسه ببدعته فهذا تزكية وتنشيط له وتغرير بالعامة؛ لأن العامي مشتق وصفه من العمى، فهو ينقاد لمن يقوده.
لقد تجانف هذا المبتدع للعدوان والإثم، وجمع من الترّهات ما يمج سماعه أولو الألباب السليمة والعقول المستقيمة، وسمّى أوراقه بـ (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب).
واشتملت هذه الصفحات الكاذبة الخاطئة على ألفاظ مبتدعة، وإشارات مخترعة، وأقوال مختلقة، ليست من أقوال أهل الإسلام، بل لم يقل بها أحد من الأئمة الأعلام، وإنما هي من أوضاع الصحافيين والمسمين بالمفسرين اللئام.
استتر -كما تعودنا من أمثاله- وراء دعوى الاجتهاد، فهو يقول عن نفسه بأنه حصل أكثر أسباب الاجتهاد، وبأنه يجدد للأمة أمر دينها! هذا كما هو في كتابه باللفظ.
وفي الحقيقة أن أخطر أمرين في هذا الزمان -ونحن في نفس الوقت أحوج الناس إليهما- التجديد والاجتهاد، تجديد الدين، وفتح باب الاجتهاد لأهله، وهاتان النافذتان في نفس الوقت هما أخطر النوافذ لغزو الإسلام وإفساد أهله؛ لأننا نرى كل من أراد أن يخترع شيئاً في الدين ويخرج على قواعد أهل العلم يحتمي وراء هاتين الدعوتين: التجديد والاجتهاد.
فهذا الترابي -مثلاً- في السودان من خلال نافذة التجديد والاجتهاد يخرج على الأمة بآراء وبدع وضلالات ما أنزل الله بها من سلطان، فيدعو إلى إسقاط حد الردّة عن المرتد، وإلغاء حد شارب الخمر، وإباحة زواج المسلمة من الكافر اليهودي أو النصراني، إلى غير ذلك من الدعاوى الواسعة بدعوى الاجتهاد وبدعوى التجديد.
فهذه الدعوى ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها من قبله العذاب؛ لأنها دعوة لهدم الإسلام والتفلّت من أحكامه ونظمه، والثورة على تراثنا الفقهي، لكن بدون مواجهة التيار الإسلامي مباشرة ومعاداته، وإنما بالمشي معه تحت ستار الإسلام، لكن بلبوس جديد، هؤلاء -حقاً- هم قطاع الطريق على هذه الأمة في سيرها إلى الله تبارك وتعالى على الصراط المستقيم، فالله طليبهم وهو حسيبهم.
كان الأولى -إن كان هذا الرجل مخلصاً للإسلام وأهله- أن يتقي الله في شتات الأمة وغرس الشقاق في أنفسهم ونشر البلبلة وقد تكسرت الرماح عليهم من كل جانب، فإذا به يختار ميداناً محبباً لأعداء الصحوة الإسلامية والكائدين لرجالها ونسائها، ولذا طار به أهل الفتن والأهواء، ثم إن أجواء العصر الذي نعيشه على أهبة الاستعداد لاحتضان عالم الشقاق، فتحمل له العَلَم الخفاق لنشر صيته في الآفاق، فيغتر بذلك أثيرُ الحظ الزائل، وما زاد الأنصار بوقاً ينفح به العدو الصائل.
أثارت هذه البدعة عاطفة من الاستحسان والإعجاب في دوائر يتفق الجميع على الريبة في كل ما تستحسن، والشك في كل ما تصفق له وتهلل، كما قيل: قل لي من يصفق لك أقل لك من أنت.
وصارت مقالاته تكأة لاستعداء الأعداء على حكم الله الشرعي في هذه القضية، فمن اعتاد على تبسيط ما لا يمكن تبسيطه سوف يكون من الصعب عليه إدراك خطر هذه الدعوة إلى السفور باعتباره واجباً شرعياً، الأمر الذي لم يجرؤ عليه حتى قاسم أمين في ذروة ضلاله، حيث لم يتجرأ على هذه الدعوى العريضة الواسعة من أن النقاب محرم، وأن المنقبة مجرمة وآثمة، وتستحق النار، وأن المتبرجة أقرب إلى الله وأقرب إلى سواء السبيل، لم يجرؤ أحد على الإطلاق من قبل أن يتفوه بمثل هذه الدعوى، وما من شك أن فتح هذا الباب من جديد هو محاولة لإحداث نكسة في الصحوة الإسلامية حتى ترجع إلى الوراء خطوات وخطوات.
فنستعين الله تبارك وتعالى في كشف بدعة هذا الرجل، وإن كنت لست أهلاً لذلك، لكن الضرورة قد تُلجئ الإنسان إلى التيمم إذا لم يجد الماء، كما يقول أبو علي البصير: لعمر أبيك ما نُسب المعلّى إلى كرمٍ وفي الدنيا كريمُ ولكن البلاد إذا اقشعرّت وصوّح نبتها رُعي الهشيمُ