ما مضى كان متعلقاً بالغلو الكلي الاعتقادي، أما النوع الثاني فهو الغلو الجزئي العملي أو السلوكي، والمراد بالجزئي ما كان متعلقاً بجزئية أو أكثر من جزئيات الشريعة العملية، سواء أكان قولاً باللسان أم عملاً بالجوارح، وذلك مثل قيام الليل كله.
وإذا كان الغلو الجزئي العملي مرتبطاً بعقيدة فاسدة انتقل إلى كونه غلواً كلياً اعتقادياً، وذلك مثل من يعتزل مساجد المسلمين؛ لأنه يراها مساجد ضرار، فهذا غال غلواً كلياً اعتقادياً.
وكذا إذا تعددت أبواب الغلو الجزئي العملي تحولت إلى غلو كلي اعتقادي؛ لأن الضرر المترتب عليها نظير الضرر المترتب على الغلو الكلي الاعتقادي.
وقد عالج النبي صلى الله عليه وآله وسلم صوراً من الغلو العملي التي حدثت في عصره، فمن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها -أي: قالوا: هذه عبادة قليلة- فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا.
وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر.
وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) فانظر إلى الشدة مع المبتدع والغالي، فاعتبر مثل هذا غلواًً وخروجاً عن هديه وسنته صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه -أيضاً- قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لـ زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، تقوم الليل فإذا فترت وتعبت من كثرة الصلاة فإنها تتعلق بهذا الحبل وهي تصلي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد) فقوله: (ليصل أحدكم نشاطه) يعني: أن تصلي قائماً ما دمت نشطاً وقادراً على القيام، فإذا تعبت وفترت فارقد، أو اجلس.
فهذا فيه الحث على الاقتصاد في العبادة والنهي عن التعمق والتنطع فيها.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل) - وأبو إسرائيل هذا صحابي كان مشهوراً بكنيته، واختلف في اسمه، فقيل: اسمه: يسير، قالوا: (أبو إسرائيل) نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه) فأقره على الفعل الشرعي فقط، أما ما عدا ذلك من هذا التنطع فألغاه.
قال الحافظ ابن حجر: وفيه أن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلاً مما لم يرد بمشروعيته كتاب أو سنة، كالمشي حافياً، والجلوس في الشمس ليس هو من طاعة الله، فلا ينعقد به النذر.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل وعندها امرأة فقال: من هذه؟ قالت: فلانة.
وأخذت تذكر من صلاتها واجتهادها في العبادة، قال: مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه) قوله: (عليكم بما تطيقون) أي: اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصاد على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق من العبادات.
وكذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما في تشدده في موضوع الصيام وغيره وكيف عالجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً: يتبين من هذا كله أن المسلم لا يحتاج إلى أن يوجب شيئاً جديداً على نفسه يتقرب به إلى الله عز وجل، فإن ذلك من تجاوز الحدود التي حددها الله وأوضحها، كما أنه لا يجوز للمسلم أن يحرم الطيبات التي أحلها الله عز وجل له، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة:87 - 88].
كما يتضح ذلك في بعض روايات النفر الثلاثة حيث حرم بعضهم على نفسه أكل اللحم، فهذا من الابتداع والتنطع والغلو.
فترك الطيبات تنسكاً وتعبداً لتعذيب النفس والتشديد عليها شبهة افتتن بها كثير من العباد والمتصوفة، متبعين في ذلك سنن من قبلهم من رهبان النصارى الذين ابتدعوا رهبانية لم يؤمروا بها في الدنيا، وذلك بتحريم الحلال وإضاعة المال، فإن كل ذلك مما جاء الشرع بالنهي عنه والتحذير من الوقوع فيه.