إن الغلو ليس نوعاً واحداً، ولكنه يتنوع باختلاف متعلقه من أفعال العباد، فهناك غلو اعتقادي وغلو عملي، فالغلو الاعتقادي يسمى غلواً كلياً.
والبدعة أقسام: بدعة كلية وجزئية، والبدعة الكلية: أن تكون قاعدة مبتدعة يتحاكم إليها وتصير أصلاً، بحيثَ تَفصَّل القضايا على أساسها، مثل قاعدة تحكيم العقل في النقل، فهذه بدعة كلية.
والبدعة الكلية تنتظم تحتها فروعاً كثيرة جداً، فالمراد بالغلو العملي ما كان متعلقاً بكليات الشريعة أو أمهات المسائل في الشريعة الإسلامية، والمراد بالغلو الاعتقادي ما كان متعلقاً بباب العقائد، فهو محصور في الجانب الاعتقادي.
وأمثلة الغلو الاعتقادي الكلي كثيرة، منها: الغلو في الأئمة وادعاء العصمة لهم، كما يحصل من الشيعة، فإن الشيعة من أقبح الفرق المتطرفة في الإسلام، فهم يغلون كثيراً في أئمتهم الاثني عشر المزعومين، فلقد غلوا فيهم حتى وصلوا بهم إلى مراتب وصفات الألوهية.
ومنها الغلو في البراءة من المجتمع العاصي، كأن يعيش إنسان في مجتمع مظاهر بالفسق والعصيان فيغلو في التبرؤ من المجتمع، ويغلو في تطبيق قضية الولاء والبراء إلى حد تكفير أفراد هذا المجتمع واعتزالهم، وهذه سنناقشها إن شاء الله تعالى بالتفصيل.
ويدخل في الغلو الكلي الاعتقادي الغلو في فروع كثيرة من الأحكام، بحيث يكثر من الإنسان مخالفات في قضايا جزئية، حتى تصير بمجموعها كلية؛ لأن المعارضة للشريعة في الحالتين منطبقة عليهما كليهما، فمعارضة الشريعة بالقاعدة الكلية يترتب عليها مخالفات جزئية كثيرة حينما تطبق هذه القاعدة، كذلك إذا كان الإنسان منحرفاً في قضايا جزئية كثيرة ومتعددة جداً فمخالفة الشريعة تقوم بها -أيضاً- بصورة كلية تماماً كما في الحالة الأولى.
فإذاً: يدخل في الغلو الكلي الاعتقادي الغلو في فروع كثيرة؛ إذ إن المعارضة الحاصلة به للشرع مماثلة لتلك المعارضة الحاصلة بالغلو في أمر كلي، والغلو الكلي الاعتقادي أشد خطراً وأعظم ضرراً من الغلو العملي؛ لأن الغلو العملي مثل أن يقوم إنسان الليل ولا ينام، ويصوم النهار ولا يفطر أبداً، إلى غير ذلك من أنواع الغلو العملي، ومثل تحريم الطيبات على نفسه، وتحريم الظلال، وتحريم أكل اللحوم وهكذا، فهذا غلو عملي، لكن الغلو في العقيدة أخطر وأشد من الغلو العملي، وفي كل شر؛ إذ الغلو الاعتقادي هو المؤدي إلى الانشقاقات، وسبب تفرق الأمة هو الغلو الاعتقادي، فالأمة ما افترقت إلا بسببه، ولذلك فسر علماء الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) فسروه بأن الفرقة في أمة الإجابة لا أمة الدعوة.
والدليل على ذلك ما ورد في صدر الحديث: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقين) واليهود الذين افترقوا إلى إحدى وسبعين فرقة كانوا أهل دين واحد، وكذلك قوله: (وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) فهذه الفرق حاصلة في أمة الإجابة، وهي الأمة المسلمة، وهذا -أيضاً- يؤيده الواقع، فإننا رأينا أصول هذه الفرق -سواء المرجئة أو الخوارج أو المعتزلة أو القدرية وما تفرع عنها من البدع المعروفة- من المسلمين.
إذاً: فالانشقاق الذي حصل داخل الجماعة المسلمة إنما حصل بسبب الغلو الكلي الاعتقادي، فهذا هو المظهر السائد للفرق والجماعات الخارجة عن الصراط المستقيم؛ لأنها ما تسمى فرقة إلا لأنها انحرفت عن الفرقة الناجية.
يقول عليه الصلاة والسلام: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضو عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة).
فهذا دليل على أن مخالفة أهل السنة والجماعة هي التي تؤدي إلى حصول التصدعات والانشقاقات، فأساس الانشقاق في الأمة نابع من خلاف في العقيدة بسبب الغلو الكلي الاعتقادي.
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: ذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة لا جزئي من الجزئيات.
يعني: لا يصح أن تصف جماعة بأنها فرقة ضالة إذا كانت تخالف في قضايا جزئية، لكن يمكن أن تصفها بأنها فرقة ضالة إذا كانت تخالف في قضية كلية اعتقادية، مثل الشيعة، فهي فرقة من الفرق الضالة؛ لأنها تخالفنا في كليات، فعندها غلو كلي في قضايا الاعتقاد.
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: لا في جزئي من الجزئيات، إذ الجزئي أو الفرع الشاذ ما ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعاً، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية، أرأيت كيف غلت الطوائف كالخوارج والشيعة في كليات من الدين، فأدى غلوهم إلى ظهور فرق ونشوء جماعات، بينما غلا أشخاص في السلوك والعبادات فلم يؤد غلوهم إلى ظهور فرق جديدة.
يعني أن فرقة الخوارج نفسها تفرقت إلى جماعات كثيرة حتى كفر بعضهم بعضاً، وهذا شأنهم في كل زمان، ففي مصر لما ظهروا في الفترات الأخيرة منذ السبعينات تفرقوا حتى صارت فرقة تكفر الفرق الأخرى، كذلك الشيعة تفرقت إلى فرق كثيرة جداً حتى كفر بعضها بعضاًً.
وهذا دليل على أنَّ الغلو الكلي الاعتقادي أعظم خطراًَ بالنسبة للغلو العملي السلوكي؛ لأن الغلو السلوكي العملي الاعتقادي لم ينشأ عنه فرق انشطارية، وأوضح مثال على ذلك الصوفية، فعندما كانوا موجودين في صدر الإسلام لم يكونوا يشكلون فرقة خطيرة على المجتمع المسلم، فقد كانوا في بداية أمرهم على الزهد والاستقامة على السنة وإصلاح الظاهر والباطن، لكنهم لما طرأ عليهم بعد ذلك انحرافات في قضايا كلية اعتقادية كبدعة ادعاء العصمة لمشايخهم ونحو ذلك من أمور الغلو الكلي الاعتقادي، فحينئذ صاروا فرقاً شتى، منهم الملحد، ومنهم المبتدع، ومنهم من هو دون ذلك.