الأسلوب الأول: الدعاء بطلب الاستقامة، وبيان أن الاستقامة لا تكون إلا بالبراءة من منهج هؤلاء الذين غضب الله عليهم والذين هم ضالون عن الطريق المستقيم؛ لأن كليهما متطرف، أما الصراط المستقيم فهو صراط الذين أنعم الله تعالى عليهم، كما في سورة الفاتحة.
الأسلوب الثاني: التحذير من تعدي الحدود، يقول عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229].
إذاً: هذا هو الميزان، وهذا هو الاعتدال، وهذا هو الصراط المستقيم، فكل انحراف عن هذا الاعتدال فهو في الحقيقة تطرف.
فمثلاً: المرأة المتبرجة تعدت حدود الله سبحانه وتعالى، حيث أمرها بالحجاب وهي تهتك ستر الله عز وجل، وتبارز الله بالمعصية وتجهر بها وتكشف ما أمر الله بستره، فهذه متطرفة منحرفة وظالمة، يقول الله عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] أي: لا تتجاوزوها.
ثم قال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229] إذاً: فغير المحجبة هي المتطرفة، وليست المحجبة هي المتطرفة.
وكذلك أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بإعفاء اللحى، فالرجل الذي يحلق لحيته متطرف ومتعد لحدود الله؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بإعفاء اللحية، وهذا خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو متطرف وظالم، يقول عز وجل: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229].
إذاً: فينبغي أن نستحضر أن الميزان والوسط هو ما جاء به القرآن والسنة، هذا هو الاعتدال، وكل انحراف عن هذا هو في الحقيقة تطرف.
وقد افتتن بعض الإخوة بما وصم ووصف به أهل الدين وأهل الطاعة من التطرف والتنطع وغير ذلك، فينبغي أن ننظر إلى هؤلاء الذين وصفوا أهل الدين بالتطرف على أنهم هم المتطرفون في الحقيقة، ولا يفت في عضدنا هذه الحملات الشيطانية ليل نهار على أهل الطاعة وأهل الدين.
إذاً: فكل شخص يخالف أمر الله وأمر رسول الله نقول له: قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229] فالحدود هي النهايات لكل ما يجوز من الأمور المباحة المأمور بها وغير المأمور بها، وتعديها هو تجاوزها وعدم الوقوف عليها، وهذا التعدي هو الهدف الأعظم الذي يسعى إليه الشيطان؛ إذ إن مجمل ما يريد الشيطان تحقيقه أحد الانحرافين: إما الغلو وإما التقصير، فما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وإضاعة وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع له أيضاً، هذا بتقصيره عن الحد وهذا بتجاوزه الحد.
وذلك هو الأسلوب الثاني في معالجة الإسلام لقضية التطرف والانحراف.
الأسلوب الثالث: الدعوة إلى الاستقامة ولزوم الأمر وعدم الغلو والزيادة، يقول تبارك وتعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112] فقوله: (لا تطغوا) أي: لا تنحرفوا ولا تتعدوا حدود الله تبارك وتعالى التي أمر الله عز وجل بها.
الأسلوب الرابع في علاج قضية التطرف والغلو: النهي عن الغلو وتوجيه الخطاب لأهل الكتاب على وجه الخصوص، حيث يقول عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ} [النساء:171].
لأن اليهود اخترعوا له من قبل قضية الخطيئة الأصلية، وأن البشرية كلها ملوثة، فربنا -عندهم- لا يتوب على المولود؛ لأنه ولد ملوثاً بخطيئة آدم، فحتى يتاب عليه لابد من أن يعمد، وذلك بالتغسيل، فإذا غسل صار نصرانياً مستحقاً للنجاة إلى غير ذلك، وهذه من مظاهر غلوهم.
ومن مظاهر غلوهم اختراع الرهبانية التي ابتدعوها وما أذن الله تبارك وتعالى بها، يقول عز وجل: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27] والاستثناء هنا منقطع بمعنى (لكن).
أما إعراب (رهبانية) فهي مفعول به لفعل مقدر، أي: ابتدعوا رهبانية ابتدعوها.
وقوله تعالى: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) أي: ما أمرناهم بها ولا كلفناهم بها، كتحريم الطيبات والتعبد بترك الزواج وغير ذلك.
فقوله تعالى: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) أي: ما كتبناها عليهم، لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله عن طريق اتباع شرع الله، وليس بالابتداع.
هذا هو معنى قوله تعالى: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) عز وجل.
واليهود -أيضاً- عندهم قدر كبير جداً من الغلو، وإن كان النصارى أكثر غلواً في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف.
فكل هذه النصوص، كقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171]، وقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة:77] توجيه النهي فيها عن الغلو لأهل الكتاب إنما المقصود به تنبيه هذه الأمة حتى لا تقع فيما وقعوا فيه من الغلو، وحتى تجتنب الأسباب التي أوجبت غضب الله سبحانه وتعالى على الأمم السابقة.
الأسلوب الخامس الذي عالج به الإسلام قضية الغلو والتطرف: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أمته عن الغلو حتى لا يقعوا فيما وقع فيه من سبقهم من الأمم التي بعث فيهم الرسل عليهم الصلاة والسلام.
فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع -أي: صباح المزدلفة- هلم القط لي الحصى -حتى يرمي جمرة العقبة الكبرى- فلقطت له سبع حصيات مثل حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد تحذيرنا مما يحصل الآن من جهلة الناس عند رمي الجمرات، فبعضهم يرمي إبليس عند الجمرات، وبلغني أن بعض الناس أطلق الرصاص على الشاخص، وبعضهم يرمون الجمرات بالنعال، ومن يذهب إلى الحج يراها، فهذا من الغلو.
ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) عليه الصلاة والسلام.
والمقصود بقوله: (لا تطروني) أي: لا تبالغوا في مدحي.
وتطرف البوصيري في فهم هذا الحديث فقال: إن النهي عن المدح بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام فقط عن أن نصفه بأنه ابن الله كما قالت النصارى، أما ما عدا ذلك فنحن في حل من أن نمدحه بما شئنا، فمن ثم خرج منه كثير جداً من مظاهر الغلو الشنيع، كمثيل قوله: دع ما ادعته النصارى في نبيهم وانطق بما شئت مدحاً فيه واحتكم يعني أن أهم شيء هو أن لا تقول: إن محمداً ابن الله أو ثالث ثلاثة.
فكان مما نطق به البوصيري من الكلام الشنيع قوله مادحاً النبي صلى الله عليه وسلم: فإن من علومك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فهذا غلو لا يرضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الأسلوب السادس من أساليب القرآن في التنفير من الغلو: بيان مصير الغالي وعاقبته.
فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) يدعو عليهم بالهلاك، أو يخبر بهلاكهم؛ لأنهم انحرفوا عن الجادة وتعدوا حدود الله تبارك وتعالى، فقوله إياها ثلاث مرات فيه توكيد للهلاك بالنسبة للمتنطعين، وهم المتعمقون المغالون المباينون الحدود في أقوالهم وفي أفعالهم.
وأيضاً يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم؛ فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) فهذه -أيضاً- صورة من مظاهر الغلو.