إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
ثم أما بعد: ففي سورة الحجرات يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:11 - 12].
الموضوع الذي سنتناول قوله تبارك وتعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].
قد يكون الإنسان حشا ذهنه بكثير من المعلومات حول موضوع معين كالموت مثلاً، فهو يعلم أنه سيموت، لكنه يحتاج بين وقت وآخر إلى أن يجدد العهد بالذكرى، ويذكر نفسه بالموت وما بعده، ومحاسبة الله عز وجل إياه، وقد بين الله تبارك وتعالى أهمية هذه الذكرى في قوله عز وجل: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، فأمرنا بالتذكير إن نفعت الذكرى، وبين في آية أخرى من هم الذين تنفعهم الذكرى، فقال عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، فالمؤمنون هم الذي ينتفعون بالذكرى، فهم إذا ذكِّروا ذكروا، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المؤمن خلق مفتناً تواباً نسياً، إذا ذُكِّر ذكر) يعني: معرضاً للفتنة والابتلاء والامتحان، (تواباً نسياًَ) يعني: كثير التوبة والنسيان، فتأتي الذكرى لتجدد عهد القلب بنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة، ليعود إلى الجادة ويجدد العهد مع الله سبحانه وتعالى.
ولا شك أن اللسان من أكبر الجوارح التي تحتاج إلى أن تلجم وأن تكبح عن الاسترسال في هذه الآفات المهلكات.
فقول الله تبارك وتعالى هنا: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]، يعني: إن كرهتم أكل لحم الإنسان الميت طبعاً فاكرهوه شرعاً، فإن عقوبته أشد، يعني: هل منكم ذو فطرة سليمة وطبع مستقيم يقبل أن يأتي إلى جثة أخيه وهو ميت، فيقطعها ويأكل منها؟! هل يحب أحد منكم بطبيعته وفطرته أن يقبل من يفعل هذا؟! لا شك أن
صلى الله عليه وسلم لا يوجد إنسان سوي الفطرة يقبل أن يأكل لحم أخيه وهو ميت.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما ضرب الله سبحانه وتعالى هذا المثل للغيبة؛ لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر، وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيحة في النفوس.
وقال قتادة في تفسير الآية: كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً كذلك يجب أن يمتنع من غيبته حياً.
ولم يقل: أيحب أحدكم أن يغتاب أخاه فكرهتموه، وإنما قال: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا)، وهذه عادة العرب الجارية في التعبير عن الغيبة بأكل اللحم، يقول الشاعر: فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً