قد يتبادر إلى الذهن أن هذا أمر ليس له أهمية كبيرة، لكن حينما نتأمل الخبط الذي يحصل من بعض أعداء أهل السنة والجماعة نحس بخطر الكلام عن هذا الأمر، فمسألة ابتداء التسمية بذلك بحث له أهمية كبرى؛ لأن بعض الناس يتحدثون عن مذهب السنة وكأنه فرقة أو طائفة في الإسلام كسائر الفرق.
فنحن الآن نناقش نشأة الاسم، وليس المسمى وهو مذهب أهله، وذلك لأن هذا هو الإسلام، فالسنة والجماعة هو الإسلام الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فلو قيل: متى تأسس المنهج السلفي؟ قلنا: يوم نزل جبريل على رسول الله عليه الصلاة والسلام في غار حراء وقال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] هذه هي بداية التاريخ، وإن شئت فعد به إلى إبراهيم، وإن شئت فعد به إلى نوح وإلى آدم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فالمذهب قائم، وهو الأصل بلا شك، لكن متى اشتهرت هذه التسمية؟ إن الكثير من الناس في هذا الزمان يحلو لهم الكلام على السنة كما يتحدثون عن أي فرقة أخرى، ويقولون: نشأت في كذا وكذا، أو: في القرن كذا.
وكأنها فرقة من الفرق لها بداية زمنية محددة.
فمثلاً: هذا زكي نجيب محفوظ، الفيلسوف الهرم الذي أفنى حياته في الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى يدعي أن السنة فرقة أو طائفة طرأت في التاريخ، وليست هي الأصل والجذر لهذا الدين، وهناك الدكتور مصطفى الشكعة في كتابه (إسلام بلا مذاهب)، يتحدث عن السنة ويقول: إن تسمية جمهرة المسلمين بأهل السنة متأخرة، يرجع تاريخها إلى القرن السابع الهجري يعني: بعد الإمام أحمد -وهذا كلامه- بأربعة قرون.
ولعله قال ذلك ليشير إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، كما يحلو لكثير من الناس ادعاء أن هذا المنهج تأسس في القرن السابع، ثم أحياه الوهابيون بعد ذلك في القرن الثاني عشر.
وهذا من التضليل ومن المجازفة.
وبعض الناس ينسبون المذهب إلى الإمام أحمد فيقولون: إن أهل السنة هؤلاء أسس مذهبهم الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-/ وبعضهم ينسبون بداية المذهب إلى أبي الحسن الأشعري، وهؤلاء قد أخطئوا في الفهم؛ لأن السبب في بروز اسم الإمام أحمد أو الإمام أبي الحسن الأشعري رحمهم الله هو أن هؤلاء كان لهم دور تاريخي بارز جداً في الفترة التي عاشوا فيها، وتصدوا لأهل البدع الذين ضلوا في مسائل الاعتقاد، فلأجل ذلك اشتهرت تسميتهم واقترانهم بمذهب أهل السنة، فهم ليسوا مؤسسي المذهب، فالإمام أحمد تقبل المحنة لأن إخوانه من أهل العلم كانوا قد قبضوا وتوفوا، كالإمام الشافعي والإمام أبي حنيفة والإمام مالك، فهؤلاء لم يدركوا المحنة، وأدركها الإمام أحمد، فانتصر هو ودافع عن السنة ودافع عن العقيدة أمام أهل البدع، وابتلي في ذلك، واشتهر حتى اقترن به اسم المذهب، لكنه ليس هو مؤسس المذهب.
وإذا ألغينا ابن تيمية من التاريخ الإسلامي تماماً فهل سيضيع مذهب أهل السنة والجماعة؟ لن يضيع، فـ ابن تيمية نفض التراب عنه فقط، ذكر الناس به بعدما فرضت عليهم السياسة مذهب الأشاعرة وأنستهم مذهب أهل السنة، وكانوا يضطهدون أهل السنة، فـ ابن تيمية نفض الغبار فقط ليعود المعدن الأصيل نقياً صافياً بلا شوائب ولا معكرات.
وتجد أن الموسوعة الميسرة في المذاهب والأديان المعاصرة نهج أصحابها نفس المنهج، حيث يتكلمون عن منهج أهل السنة والجماعة أو المنهج السلفي على أنه شيء طرأ على التاريخ الإسلامي، وليس هو أصل دين الإسلام الذي ربى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
وقد حاول بعض الناس -أيضاً- أن يدعو إلى التقريب بين السنة والشيعة، فألف كتاباً سماه (لا سنة ولا شيعة) ومعنى ذلك أنه لا دين ولا إسلام؛ لأنه يريد التقريب فيظن أن السنة مذهب، والشيعة مذهب فقال: لا سنة ولا شيعة.
كلا! كيف لا سنة والسنة هي الدين الصحيح؟! يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وطريقتهم -أي: طريقة أهل السنة- هي دين الإسلام، لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة.
إذاً حصل التمييز بالاسم، فالأصل هو اسم الإسلام، لكن حصل التمييز باسم أهل السنة والجماعة لما ظهر أهل البدع والانحراف، لكن المنهج موجود وهو دين الإسلام، فمنهج أهل السنة والجماعة هو دين الإسلام الصحيح الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فحصل التمييز بالاسم لما حدث الافتراق الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه، كخروج الخوارج والشيعة ونحوهم.
يقول الدكتور مصطفى حلمي حفظه الله: إن أهل السنة والجماعة هم الامتداد الطبيعي للمسلمين الأوائل الذين تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.
والإمام عبد الله بن محمد بن حبان توفي سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، والإمام أبو ذر الهروي توفي سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، وكل منهما له كتاب اسمه: (السنة)، فكانوا يصنفون كتباً في العقيدة تحت اسم السنة؛ لشيوع هذا المصطلح في زمانهم.
قال: ومحمد بن سيرين توفي سنة عشر ومائة من الهجرة، يقول: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم.
إذاً هذا ابن سيرين في بداية القرن الثاني وأواخر القرن الأول يقول: فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم.
فكان هناك تمييز بين أهل السنة وبين أهل البدع في أواخر القرن الأول، فهذا كان هو الاصطلاح السائد قبل أن يخلق أبو حنيفة ومالك والأشعري وأحمد والشافعي وابن تيمية، وغيرهم من أئمة الإسلام.
وفي رسالة المأمون العباسي إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي -وكان كتب تقريراً في الإمام أحمد بن حنبل - يقول: نسبوا أنفسهم إلى السنة أهل الحق والجماعة.
فهذه كلها تشير إلى أن المنهج لا يسأل عن ابتدائه، لكن شاع استعمال كلمة أهل السنة حينما تفرقت الأمة، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم.