ذكرنا فيما سبق وجوب الاستئذان، وهنا نذكر أشياء تستثنى من ذلك، ولا يجب فيها الاستئذان، فهناك بيوت يمكن أن تدخل بدون استئذان، وهي كالتالي: أولاً: البيوت غير المسكونة التي فيها متاع للناس، فهذه يجوز دخولها من غير استئذان؛ بناء على الإذن العام بدخولها في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29]، وذلك إذا تعلق بها منفعتهم؛ كدفع الحر والبرد في الخانات والرباطات، ومثلها في هذا الوقت الفنادق، ومنفعة قضاء الحاجة في المواضع المعدة لذلك، وغير ذلك من المنافع.
وقد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29] فقال قتادة ومجاهد والضحاك ومحمد بن الحنفية: إنها البيوت التي تبنى على الطرقات يأوي إليها المسافرون، ومثلها الخانات، والخانات: جمع خان، وهو حانوت التاجر، وهي مواطن سكن مؤقتة يدخل الناس إليها دون استئذان، أما بالنسبة للفنادق: فالغرف التي فيها أناس لا يجوز دخولها، وأما صالة الفندق فيجوز دخولها؛ لأنها مكان عام، وفي الغالب فإن الغرف لا يمكن دخولها إلا إذا كانت خالية.
وقال مجاهد: لا يسكنها أحد؛ بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل.
وقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي والشعبي: إنها الدكاكين التي في الأسواق (المحلات)، وقد استظل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ظل خيمة فارسي بالسوق من المطر دون إذن منه.
وروى سفيان عن عبد الله بن دينار قال: كان ابن عمر يستأذن في حوانيت السوق، فذكر ذلك لـ عكرمة، فقال: ومن يطيق ما كان ابن عمر يطيق؟! وليس في فعله ذلك دلالة على أنه رأى دخولها بغير إذن محظوراً، ولكنه احتاط لنفسه، وذلك مباح لكل أحد.
وذهب ابن جرير وابن عطية إلى أنه لا يدخل الحوانيت إلا بإذن أربابها، فلا يدخل أي محل مفتوح إلا بإذن صاحبه، لكن قال الأولون: إنه لا ريب أن الحانوتي -أي: صاحب المحل، نسبة إلى الحانوت وهو المحل أو المتجر- إذا فتح متجره فهو يفتحه رغبة في دخول الزبائن، وأنه راغب في البيع، وهذا سبب كافٍ لإباحة دخول المتاجر بدون إذن، وقد تعارف الناس على ذلك.
قال الشعبي: لأنهم جاءوا ببيوعهم فجعلوها فيها، وقالوا للناس: هلم.
وقال عطاء: المراد بها الخرب التي يدخلها الناس للبول والغائط، ففي هذا أيضاً متاع، وقال محمد بن الحنفية أيضاًَ: أراد تعالى بذلك دور مكة.
وبين الإمام مالك رحمه الله تعالى الأصل في قول محمد بن الحنفية هذا، فقال: وتجويز محمد بن الحنفية دخول بيوت مكة بغير استئذان مبني على القول بأن بيوت مكة غير متملكة، وأن الناس فيها شركاء.
يعني: بناء على أن مكة فتحت عنوة، وتعقب بأن الله سبحانه وتعالى قيد هذه البيوت المذكورة في الآية بأنها بيوت غير مسكونة، وبيوت مكة مسكونة، وأدخل جابر بن زيد في ذلك كل مكان فيه انتفاع وله فيه حاجة، وبنى المالكية ذلك على العرف فقالوا: يباح له أن يدخل بغير استئذان كل محل مطروق؛ كالمسجد، والحمام، والفندق، وبيت العالم والقاضي والطبيب، وهو المكان الذي يستقبل فيه الناس؛ لوجود الإذن العام بدخوله.
وقد سمى الشيخ عليش هذه البيوت: بيوت ذي الإذن العام لجميع الناس، فهي بيوت مختصة بأن فيها إذناً عاماً لجميع الناس؛ كبيت الحاكم والعالم والكريم الذي يدخله عامة الناس بلا إذن خاص.
وقال الحنفية: إن البيوت إذا لم يكن لها ساكن، وللمرء فيها منفعة، يجوز له أن يدخلها من غير استئذان؛ كالخانات والرباطات التي تكون للمارة، والخرابات التي تقضى فيها حاجة البول والغائط؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29].
وقال الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى: القول بالعموم في البيوت هو الصحيح، ولا دليل على التخصيص.
وقال أيضاً: من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد طبق المفصل، وجاء بالفيصل.
وهذا الأسلوب رائق رائع من الإمام أبي بكر بن العربي رحمه الله تعالى، وكتب ابن العربي عموماً فيها هذه الأساليب البليغة، والتعبيرات الجميلة، فأنا أوصي من يريد أن يقوي لغته أن يستخرج هذه التعبيرات، ويكتبها، ويحفظها، ويستعملها، فكثيراً ما يأتي ابن العربي بعبارات رائقة ورشيقة وشائقة من الناحية اللغوية، وكما تلاحظون هنا يقول: من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد طبق المفصل، وجاء بالفيصل.
وبين أيضاً أن دخول الداخل في هذه البيوت إنما هو لما له من الانتفاع، فالطالب يدخل المدرسة للعلم، والساكن يدخل في الخان للمبيت فيه، أو لطلب من نزل لحاجته إليه، والزبون يدخل الدكان للابتياع، والحاقن يدخل الخلاء للحاجة، وكل يؤتى على وجهه من بابه.
إذاً: هذا هي حالة الاستثناء الأولى: أن ندخل بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لنا بدون إذن.
الحالة الثانية: ترك الاستئذان لدخول بيت إحياء: لنفس أو مال، فقد يكون الإنسان في ظرف لو أنه انتظر حتى يستأذن فقد تفوت المصلحة، فإذا كان هناك في بيت مثلاً حريق، أو مال سيتلف، ففي هذه الحالة يقتحم البيت بغير إذن؛ إحياء للنفس أو حفظاً للمال.
وقد أورد الحنفية عدداً من الفروع الدالة على ذلك، وقواعد المذاهب الأخرى لا تأبى ما ذهب إليه الحنفية، إلا الحنابلة فإنهم لم يجيزوا دخول البيت إذا خيف ضياع المال إلا باستئذان أما إذا كان لدفع عدو يريد أن يزهق نفساً مسلمة فيجوز دخوله بغير استئذان؛ لما في دفع العدو من إحياء نفوس المسلمين وأموالهم.
الحالة الثالثة: أجاز الحنفية والمالكية دخول البيت الذي يتعاطى فيه المنكر بغير استئذان بقصد تغيير المنكر، أي: لابد أن تكون نيته تغيير المنكر، وليس الدخول والاطلاع على العورات، كما إذا سمع في دار صوت المزامير والمعازف فله أن يدخل عليهم بغير إذن، وعللوا ذلك بعلتين: الأولى: أن الدار لما اتخذت لتعاطي المنكر فقد سقطت حرمتها، وإذا سقطت حرمتها جاز دخولها بغير إذن.
الثانية: أن تغيير المنكر فرض، فلو شرط الإذن لتعذر التغيير.
وهذه الحالة إذا تجاهروا بالمنكر، أما إذا لم يتجاهروا بالمنكر فلا، فمثلاً: لم تسمع مزماراً، ولم تشم رائحة الخمر، وليس هناك أي شيء يدل على وجود المنكر، فهنا لا يجوز التوصل إلى المنكر عن طريق التجسس، فشرط المنكر الذي ينكر أن يكون ظاهراً من غير تجسس، أما لو كان المنكر مختفياً فلا؛ لأنه لم يستوف شروط المنكر الذي يجب تغييره، فأحد شروط تغيير المنكر أن يكون منكراً، وأن يكون ظاهراً بغير تجسس.
وأما الشافعية فقد كانوا أكثر تفصيلاً للأمر من الحنفية، حيث قالوا: إن المنكر إن كان مما يفوت استدراكه جاز له دخوله لمنع ذلك المنكر بغير استئذان، كما إذا أخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا برجل ليقتله، أو خلا بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسس، ويقدم على الكشف والبحث؛ حذراً من فوات ما لا يستدرك من إزهاق روح معصوم، وانتهاك عرض محرم، وارتكاب المحظورات، أما إذا لم يفت استدراكه، كما إذا دخل معها البيت ليساومها على أجرة الزنا ثم يخرجان ليزنيا في بيت آخر، أو إذا كان مما يمكن إنكاره ورفعه بغير دخول؛ لم يحل له الدخول بغير استئذان، كما إذا سمع المحتسب أصواتاً منكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتهم؛ أنكرها خارج الدار، ولم يهجم عليها بالدخول؛ لأن المنكر ظاهر، وليس له أن يكشف عما سواه.