لقد تواترت شكوى أهل العلم عبر العصور من إهمال الناس لآداب الاستئذان، حتى صارت بينهم لشدة غربتها كأنها شرع منسوخ، يقول الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى: وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لم يؤمن بها أكثر الناس؛ يعني: آية الإذن.
وهذا الكلام ليس على ظاهره، وإلا فمن كذب بحرف من القرآن فقد كفر، فما بالكم بمن يكذب بآية؟! فـ ابن عباس يريد الزجر، ويعني: أن الناس يسلكون سلوك من لم تنزل عليه هذه الآية في القرآن، فكأنهم ما سمعوها؛ لشدة هجرهم إياها، وليس الكلام على ظاهره في أن الناس لا يؤمنون بهذه الآية، وإلا لاستلزم ذلك تكفيرهم، فالمراد هنا الزجر وبيان غربة هذا الحكم.
يقول: وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لم يؤمن بها أكثر الناس) يعني: آية الإذن (وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي).
فهذا واضح في أنه يقصد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58]، والدليل على أنه قصد هذه الآية قوله: جاريتي، يعني: أمتي، وهي مما ملكت يمينه.
وعن الشعبي في قوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ} [النور:58] قال: لم تنسخ، قيل له: إن الناس لا يعملون به، قال: الله المستعان.
وعن سعيد بن جبير قال: إن ناساً يقولون: نسخت هذه الآية، لا والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون بها الناس.
وقال الزمخشري: وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته: حييتم صباحاً، أو حييتم مساءً، ثم يدخل.
أي: أنّ هذه كانت طريقة الاستئذان في الجاهلية، فيقول: حييتم صباحاً، إن كان في الصباح، أو حييتم مساءً، ثم يهجم على البيت ويدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد، فصد الله عن ذلك، وعلم الأحسن والأجمل.
يقول الزمخشري: وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة قد تركوا العمل به، وباب الاستئذان من ذلك، بينا أنت في بيتك إذ رعف عليك الباب بواحد.
أي: أنه شبه هذا الهجوم المباغت من الذي لا يستأذن بهجوم الدم الذي يخرج من الأنف فجأة دون سابق إنذار، وهو الرعاف.
يقول الزمخشري: وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة قد تركوا العمل به، وباب الاستئذان من ذلك، بينا أنت في بيتك إذ رعف عليك الباب بواحد من غير استئذان ولا تحية من تحايا إسلام ولا جاهلية، وهو ممن سمع ما أنزل الله فيه، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أين الأذن الواعية؟! انتهى كلام الزمخشري رحمه الله تعالى.
أما في عصرنا، فمن أراد أن يعرف شدة غربة أحكام الإسلام بين الخاصة فضلاًً عن العامة، فليتأمل موقفهم من أحكام الاستئذان وآدابه، وإذا تأمل الإنسان أحكام الإسلام السامية، وآدابه الراقية في باب احترام خصوصية الناس ومراعاة حرمة بيوتهم؛ لأدرك أننا متخلفون عن الإسلام، لا عن الحضارة المادية الكافرة بالله ورسله التي لا يزال المنبهرون بها يشيدون بفضائلها المزعومة، وقد أعماهم افتتانهم بهدي الكفار عن رؤية مثالب الواقع الاجتماعي الغربي الذي يعاني من التحلل والانهيار، فما عند القوم من الشر والبلاء والانحلال أضعاف ما عندهم من الخير، وما عندهم من الخير فلدينا أضعاف أضعافه، مما يغنينا عن التطفل على موائدهم، وهو أقرب إلينا من أيدينا وهو أصلاً مأخوذ منا كما هو معلوم في مناسبات أخرى، فهذه بضاعتنا المفروض أن ترد إلينا، ولكن المستغربين لا يفقهون، وحالهم كالذي قيل فيه: كالعيس في البيداء يقتلها الضما والماء فوق ظهورها محمول