الأمر الثاني: أن كلمة (الحكم لله) أو (الحاكمية لله) راجت بين الشباب بفعل قيام بعض الناس بالترويج لهذا المفهوم، واتخذت صورة قاصرة في فهم معنى كلمة: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40] أي: ما معنى الحاكمية لله؟ فهل (الحاكمية لله) أصبحت مفهوماً نرى كل شيء في الواقع من خلاله، فلا ننظر إلى الزكاة والصيام والحج والصلاة وغيرها من القضايا الشرعية إلا من خلال كلمة (الحكم لله) أي: بالمفهوم السياسي؟! كلا، لكن كلمة: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) التي نطق بها يوسف عليه السلام وهو بين جدران السجن، وهو يدعو إلى التوحيد، ولم ينفض يديه عن أعباء الدعوة؛ لأنه لم يُقِمْ الحكومة الإسلامية، لكنه كان يمارس دعوته ويؤدي رسالته بقوله: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)، ثم بين المقصود من ذلك فقال: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].
فإذا ذكرنا كلمة - (الحكم لله) - أو (الحاكمية لله)، فلا يصح أن ينصرف الذهن -فقط- إلى الجانب السياسي، فلو راجعنا قسم (الحكم) في كتب أصول الفقه، فسوف نعرف المدى البعيد الذي تصل إليه هذه الكلمة (إن الحكم إلا لله) في كل شيء.
وقول الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:44] هذا قول عام، ليس فقط على الحكام أو القضاة الذين لا يحكمون بكتاب الله، ولكنه يعم كل مسلم له حظ من هذه الآية؛ لأن الآية فيها صيغة عموم: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ)، أي: كل من لم يحكم، وقوله: (بما أنزل الله) تشمل كل ما أنزل الله، فكلٌ له نصيب من هذه الآية، إذ لابد من الحكم بما أنزل الله في كل مكان، بل وأعظم من ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)، وأول راع هو الحاكم، فقال عليه الصلاة والسلام: (الإمام راع، وهو مسئول عن رعيته)، فالحاكم أول هؤلاء الرعاة الذين يسألون عن رعيتهم: (والرجل في بيته راع، وهو مسئول عن رعيته) الحديث، وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائل كل راع عن ما استرعاه؛ حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته).
إذاً: الحكم بما أنزل الله درجات، أعلاها: ما يتعلق بالحاكم، بأن يسوس الناس ويحكمهم بالدين، وأن يحرس الدين، فسياسة الدنيا بالدين وحراسته هي وظيفة الحاكم.
أما المحكومون فتتنوع مسئولياتهم بتنوع أقدارهم ومواطنهم، فأنت تحكم بما أنزل الله مثلاً بين أولادك، فمما أنزل الله ألا تفضل بعضهم على بعض في العطية، فمن فضل ولداً على سائر إخوته بالهدية -مثلاً- أو الهبة فإنه لم يحكم بما أنزل الله؛ لأن الله حرم هذا، وأيضاً: أمر الزوجة بالمحافظة على الصلوات: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]، هذا أمر وحكم أنزله الله، وقال عز وجل في بعض أحكام الطلاق: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق:5].
فالحكم بما أنزل الله يمتد ليشمل كثيراً من الجوانب، منها: الجانب السياسي، والاجتماعي، وجانب العبادات، وجانب التوحيد، وهو أعظمها بلا شك.
إذاً: هذا مما ينبغي الانتباه إليه، فليست الحاكمية بالمفهوم الضيق الذي طرأ في العصور الأخيرة، لكن الحاكمية أوسع من هذا، ولا يعني هذا أننا نبتر الجانب السياسي من الإسلام، ولكن يكون قدره أقل بالنسبة لأصل الأصول ألا وهو توحيد الله عز وجل.
أيضاً: ما هو الأثر عندما نعتبر أن الحكم هو أصل الأصول في الدعوة الإسلامية؟ هذا يترتب عليه أن يصبح الحكم غاية، والحكم ما هو إلا وسيلة لتطبيق شرع الله سبحانه وتعالى؛ لكن ليس هو الغاية العظمى من بعثة الرسل؛ ولذلك فإن الصحابة رضي الله عنهم كان يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أغاروا على قوم أن يدعوهم قبل القتال، فلم تكن المسألة مسألة غنيمة فقط، كما أنهم لم يقهروا الناس أو يكرهوهم على الدخول في الدين مباشرة، ولم يبدءوهم بالقتال، ولكن كانوا يبلغونهم الدين قبل كل شيء؛ لأن الجهاد والفتح ما هو إلا وسيلة لتطبيق شرع الله، والدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى.