نتناول في هذا المبحث أمرين: الأمر الأول: أن الحكم والسياسة من الدين، ومن ذهب إلى أنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين فهذا قد سلك أقصر الطرق إلى الكفر؛ لأنه مثل من قال: الخمر حلال، والزنا حلال، فأحل ما حرم الله، أو حرم ما أحل الله، أو أنكر آية من القرآن، فهذا وذاك في الكفر سواء، وفي الخروج عن حظيرة الدين سواء، وهذا مما لا يُختلف عليه.
فربما كان الناس في أي زمان من الأزمنة الماضية لم يتضح عندهم هذا المفهوم بقدر ما اتضح عندنا، وما ذاقوا من الويلات كما ذقنا بمجرد أن انتهت الخلافة الإسلامية، وفي هذا يقول شوقي مبيناً آثار انهيار الخلافة الإسلامية: فلتسمعن بكل أرض داعياً يدعو إلى الدجال أو لسجاحِ وليشهدن بكل أرض فتنةً فيها يباع الدين بيع صباحِ يعني: ما دامت الخلافة قد ضاعت فتوقعوا أنكم ستسمعون في كل أرض داعياً يدعو إلى الكذاب مثل دعوة مسيلمة أو دعوة سجاح التي ادعت النبوة.
وليشهدن بكل أرض فتنة فيها يباع الدين بيع صباح يباع الدين ويستهان به، ولا غرو؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتنقضن عُرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة)، فجعل الحكم من عُرى الإسلام؛ بل قرنه بأعظم أركان هذا الدين ألا وهو الصلاة، (فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة).
وإن كانت كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فيها نفي وإثبات؛ فينبغي لكل شخص حتى يستحق صفة المسلم أن يجمع بين كفر وإيمان: كفر بكل الآلهة سوى الله، وإثبات العبودية لله وحده، (لا إله إلا الله) أي: لا إله حق إلا الله، لكن لا يصح أن يقال: لا إله موجود إلا الله؛ لأن هناك آلهة موجودة دون الله، وهي آلهة باطلة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، إذاً: الهوى إله يُعبد من دون الله، والمال إله يعبد من دون الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار! تعس عبد الدرهم! تعس عبد الخميصة! تعس عبد القطيفة! تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، والساحر طاغوت وهو إله يُعبد من دون الله، والشيطان إله يعبد من دون الله، يقول الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61]، فالشيطان إله، لكنه إله باطل، فالله وحده هو الإله الحق الذي يستحق أن يُفرد سبحانه بالعبودية.
الحاكم بغير ما أنزل الله إله باطل يُعبد من دون الله، وهو من رءوس الطواغيت كما بين القرآن وكما بينت السنة، فيجب أيضاً الكفر بهذا الطاغوت، كما قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي: (لا إله إلا الله).
إذاً: حتى نستمسك بهذه العروة الوثقى لابد أن نكفر بكل طاغوت، ونؤمن بالله وحده، لكن لا يصح الإشراك مع الله سبحانه وتعالى في هذه العبادات.
فنقول: إن الحكم بغير ما أنزل الله من الكفر، أو هو من رءوس الكفر، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، فلا يصح الإيمان ولا دعوى الإيمان حتى يجمع الإنسان بين الإيمان بالله والكفر بكل إله يُعبد من دون الله من الطواغيت، ومن رءوس هؤلاء الطواغيت: من يحكم بغير ما أنزل الله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وليس في عنقه بيعة فميتته جاهلية)، أي: من مات وليس في عنقه بيعة للخليفة المسلم، وللحاكم المسلم فهذه ميتة جاهلية، وتشبه موتة أهل الجاهلية، فإن كان هناك خليفة ولم تبايعه، أو خرجت على طاعته ونقضت بيعته فأنت على خطر عظيم، أما إذا لم يوجد هذا الخليفة ولم تستطع مبايعته فقد أشبهت موتتك موتة أهل الجاهلية؛ لأنهم كانوا في فوضى لا يجمعهم نظام.