أنواع البدعة

الطرائق في الدين نوعان: طريقة لها أصل في الدين، وطريقة ليس لها أصل في الدين.

فالطريقة التي لها أصل هي طريقة في الدين؛ لأن لها أصلاً في الدين، أي: ليست مخترعة.

مثل العلوم الخادمة للعلوم الشرعية كعلم النحو، والصرف، ومفردات اللغة، وأصول الفقه، ومصطلح الحديث، فكل هذه طرق جديدة في الدين، والسلف لم يدرسوا هذه العلوم بهذه الطريقة التي ندرسها الآن، والتي وجدت بعدهم، فهي طريقة في الدين، لكن ليست مخترعة؛ لأن لها أصلاً في الدين، فهذه العلوم تحفظ علم الدين، وتسهله على طالبه، فأصل هذه العلوم موجود في الشرع، وإن لم توجد في الصدر الأول بنفس الكيفية؛ لأن الصحابة كانوا فصحاء بلغاء، ولا يمكن أن يلحن الواحد منهم في نحو أو صرف أو غير ذلك، وإنما وضعت هذه العلوم بعدهم، فهي طريقة في الدين لكنها ليست مخترعة، وإنما هي مسألة تيسير لطلبة العلم.

فأما النوع الثاني من الطرائق في الدين فهو طريقة في الدين لا أصل لها، أي: مخترعة.

وهي البدعة.

وقوله: (طريقة في الدين مخترعة) تمييز بين هذه الطريقة المخترعة والطريقة التي تكون طريقة في الدين لكنها ليست مخترعة، فقولنا: (مخترعة) احتراز من الطريقة التي لها أصل في الدين.

وقوله: (تضاهي الشرعية) يعني: تشبه الطريقة الشرعية.

ومن المعلوم أن الباطل لا ينفق إلا إذا كان فيه شيء من الحق، فلو أن المبتدع أو المضل أبرز الباطل صافياً محضاً لا يخالطه حق فإنه سيسهل كشفه، ولا ينخدع به أحد، لكن لا بد للمبطل من أن يخلط الباطل بشيء من الحق حتى تروج بضاعته على الناس، فلذلك نقول: إن البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية بمعنى أنها تشبه الطريقة الشرعية، لكنها في الحقيقة ليست شرعية، وإنما هي مجرد مشابهة، لكن الحقيقة أنها ليست طريقة شرعية، بل هي في الحقيقة تتضارب وتتصادم مع الطريقة الشرعية من أوجه شتىً.

فالبدعة فيها وضع حدود خاصة للتعبدات، مثل رجل يريد أن يعبد الله فينذر أن يصوم، ويظل مع صومه قائماً ضاحياً للشمس لا يستظل، فوضعُ كل هذه الكيفيات المخترعة للتعبد بدعة في الدين.

ومثل إنسان يتعبد بالاقتصار على نوع معين من الملبس أو من المأكل، فهذا أيضاً طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، من غير أن تكون في الحقيقة كذلك.

ومثل التزام كيفية معينة، أو عدد معين، أو صفة معينة والمحافظة عليها، فهذا أيضاً طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، وهكذا.

فالمبتدع دائماً يخلط البدعة بشيء من الحق حتى يموه على الناس فيعملوا بها.

وهناك طرائق تضاهي الشرعية، كما حصل من كفار قريش حينما كانوا يبتدعون في الدين أشياء يجدونها على ملة إبراهيم عليه السلام ينطبق عليها معنى البدعة، فمثلاً: حينما عبدوا مع الله سبحانه وتعالى الآلهة الباطلة كانوا يسوغون هذه العبادة بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].

وأيضاً كانوا يطوفون بالبيت عراة، وهذا الفعل سماه الله تعالى فاحشة بقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28] فكانوا يسوغون هذا الباطل، ويقولون: لا نطوف بثياب عصينا الله بها.

وكذلك الحمس -وهم المتطرفون أو المتشددون من قريش في الجاهلية- كانوا لا يخرجون إلى عرفات، ويسوغون عدم خروجهم إلى عرفات بأنهم يقفون بالحرم تعظيماً للحرم؛ لأن منى من الحرم، فيقولون: نحن لا نخرج من الحرم تعظيماً للحرم.

ويرفضون الخروج إلى عرفات، فهذا أيضاً من بدعهم.

ومن هذه الطرق المبتدعة في الدين ما يدعيه الصوفية من أنهم يعبدون الله لا خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، ولكن حباً فيه، فهذه أيضاً من الطرق المبتدعة في الدين يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى، فهذه هي أيضاً من أركان تعريف البدعة، فيجب على المبتدع أن ينظر إلى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وسيرى أن المقصود هو العبادة.

لكن قد يغفل الإنسان عن حقيقة أخرى لازمة، وهي كحقيقة استحقاق الله وحده العبادة، وهي أنه كما نوحد الله بالعبادة كذلك يجب أن نوحد رسوله بالاتباع والاقتداء، فلا نقتدي بغير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنعبد الله بما شرع، ولا نعبده بالبدع؛ لأننا إذا تقربنا إلى الله بغير ما شرعه على لسان رسول الله عليه الصلاة والسلام فمعنى ذلك أننا نتهم الشرع بالنقص، وأن الرسول ما استوفى وسعه في نصيحتنا، وأنه كانت هناك أشياء تقربنا إلى الجنة وتباعدنا من النار وهو عليه الصلاة والسلام -وحاشاه- قد كتم هذه الأشياء ولم يدلنا عليها، وهذا اتهام للشرع بالنقصان.

وقوله: (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى) معنى ذلك أن البدع لا تدخل في العادات؛ لأن الفارق بين العادة والعبادة هو النية، فإذا ما انضاف إليها نية التقرب إلى الله صارت بدعة.

أما إذا كان إنسان لا يأكل اللحم -مثلاً- لأنه لا يعجبه أو يؤذيه من الناحية الصحية، أو لا يحبه بطبعه فليس عليه حرج ما دام في نطاق الأمور العادية، أما إذا امتنع رجل من أكل اللحم تعبداً، كأن يقول: أتقرب إلى الله بترك اللحم فهذا يدخل في حد البدعة، والفارق بينهما هو النية، ولذلك قال الشاطبي في الحد: يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015