روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم، ففهمتها)، السام: هو الموت، والخبثاء كانوا يجتهدون في إخراج أي نوع من الأذية يستطيعون توصيله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا مثلاً كما جاء ذكره في من القرآن يقولون: يا محمد راعنا، هم يريدون -والعياذ بالله- وصفه بالرعونة، فيلحنون في القول، ويصرفون الكلام عن أصله، فيستخدمون العبارات الموهمة، فلذلك نزل القرآن محذراً المؤمنين من استعمال هذه العبارات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة:104] هنا هذه المجموعة من اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا: (السام عليكم) يدعون على رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن حضره بالموت والعياذ بالله قالت عائشة: (ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة! -أخذتها الغيرة رضي الله عنها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله).
انظر إلى هذا الأدب النبوي الرفيع في الرفق وحسن الخلق في كل المواضع بقدر المستطاع (مهلاً يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كله، قالت: فقلت: يا رسول الله! أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: قد قلت: وعليكم) ردها عليهم بالمثل (وعليكم) أي: إن كان المقصود بها الدعاء فيرد الدعاء لهم جزاء وفاقاً، وإن كان المقصود حملها على السام يعني الموت، فالموت مكتوب عليكم، فهكذا كانت معاملة الرسول عليه الصلاة والسلام مع غير المسلمين، ولنا فيه أسوة حسنة.
ذكر ابن إسحاق في مغازيه (أن وفد نصارى نجران لما وفدوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخلوا عليه في مسجده بعد صلاة العصر، فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الصحابة منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم).
ويؤكد الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى على هذه الحادثة مستنبطاً فقهها فيقول: فيها جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين، وفيها تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفي مساجدهم أيضاً، إذا كان ذلك عارضاً، ولا يمكنون من اعتياد ذلك.
أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم وهو يذكر لأصحابه علامة من علامات نبوته، ودليلاً من دلائل نبوته صلى الله عليه وآله وسلم يقول للصحابة رضي الله عنهم: (إنكم ستفتحون مصر) وقد وقع كما أخبر عليه الصلاة والسلام، ولم يقع أن تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بشيء ولم يقع كما أخبر أبداً، وهذا من أعظم آيات نبوته، غاية ما في الأمر أن هناك أشياء لم تحصل بعد، لكنه تنبأ بفتح القسطنطينية التي هي (إسلام بول) أو (إستانبول) وقد وقع ذلك بعدها بثمانمائة سنة، وتنبأ أيضاً بأن المسلمين سيفتحون رومية ولم يقع هذا حتى اليوم، وهو لابد واقع كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط؛ فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمة ورحماً) هذا الحديث رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ذكر بعض العلماء في شرح الحديث: أن أهلها فيهم شيء من الإمساك في الناحية المالية، حتى إن القيراط وهو الشيء اليسير يسمونه ويهتمون به، والله أعلم.
والمسلمون لما دخلوا مصر وشرف الله مصر بالفتح الإسلامي كان أهلها نصارى كفاراً، ومع ذلك يوصي عليه الصلاة والسلام بهم خيراً، (فإن لهم ذمة ورحماً) أي: أن هاجر زوج إبراهيم عليه السلام وأم إسماعيل من مصر، كذلك أيضاً مارية القبطية التي أهداها إليه المقوقس حاكم مصر أيضاً مصرية، وهي أيضاً أم ولده إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
فهذه هي وصايا الإسلام حول أهل الذمة ونحوهم، وهي وصايا تنبئ بلا شك عن تسامح كبير معهم، كما هو معلوم أن سبب نزول قوله تبارك وتعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8] امتدحهم الله بأنهم يحسنون إلى المسكين واليتيم والأسير مع احتياجهم لهذا الطعام ومحبتهم له.