أيضاً من مظاهر سماحة الإسلام: الرفق بأهل الذمة، من اليهود والنصارى الذين عاشوا تحت كنف الخلافة الإسلامية، ولهم عقد ذمة حدد ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات، ونظم العلاقة بينهم وبين المسلمين، أما من عدا ذلك فليسوا بأهل ذمة.
إذاً: يشرع في حق أهل الذمة أن يعاملوا معاملة حسنة، لا أذى فيها ولا ريبة، دون سب وشتم، أو قهر ونهر، أو إذلال وإهانة؛ لأن في كل هذه الأشياء إلحاق الأذى بهم، والدين لا يبيح أذيتهم بحال، فقد روى مسلم: (أن هشام بن حكيم رضي الله عنه مر على أناس من الأنباط -والأنباط: هم فلاحو العجم- قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية -يعني: حبسوا بسبب أنهم عجزوا عن أداء الجزية فلم يؤدوها- فقال هشام رضي الله عنه: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)، فيا ويل الذين يعذبون الناس في الدنيا! فانظر ما قاله الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حق الكفار من العجم، فكيف بمن يعذب المسلمين الموحدين! ليس لغرض دنيوي؛ بل يعذبهم بسبب تمسكهم بدينهم، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (فويل لهم ثم ويل لهم، إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا).
ولا شك أن المعاملة السيئة لمثل هؤلاء الذميين وإلحاق الأذى بهم يزهدهم في الإسلام، ويرغبهم عنه، وتسوء نظرتهم إلى الإسلام، وبذلك قد يحجبهم عن الدخول فيه، مع أن الإسلام قد حقن دماءهم، واكتفى منهم بأخذ الجزية؛ من أجل أن تكون لهم فسحة وقت، يتركون أحياء في وسط المجتمع الإسلامي، ويعايشون المسلمين عن قرب فيرون أخلاق الإسلام، وهذا حكمة عظيمة جداً، وباب من أبواب الرحمة؛ لأن كثيراً من المسلمين الملتزمين بدينهم، والذين حسنت أخلاقهم، تجده يتزوج مثلاً امرأة كتابية يهودية أو نصرانية في بعض الدول في الخارج، وفي النهاية تعجب هذه المرأة بحسن خلقه وحسن معاملته والتزامه بدينه مما يؤدي إلى أن تتبعه على دين الإسلام.
وأنا لا أدعو إلى التزوج منهم مطلقاً، لكن الشاهد: أن حسن الخلق مع المخالفين في الدين بالذات من أهل الذمة له آثار طيبة في ترغيبهم في الإسلام، فالله عز وجل إنما شرع حقن دمائهم والإبقاء عليهم حتى يعطوا فرصة؛ لأن الكتابي هو الأقرب إلى الدخول في الإسلام من المشرك الوثني؛ لأن هذا لا يحتاج لجهد حتى تثبت له التوحيد أو النبوة والرسالة، أو أمور اليوم الآخر والقضاء والقدر، وغير ذلك من الأحكام الشرعية التي قد تقترب من شريعة إلى أخرى، فالقضية أساساً هي في إثبات نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وإثبات أن القرآن كلام الله، فالمهم أنه أقرب من الملحد أو الوثني والمشرك.